والقصد أن من بذل نفسه لله بصدق، كرِه بقاءه مع النفس، أي أنه يعيش بلا نفس، لأنه يريد أن يتقبلها مَن بُذِلَت له، ولأنه قد قربها له قربانًا. ومن قرب قربانًا فتقبل منه، ليس كمن رُد عليه قربانه، فبقاء نفسه معه دليل على أنه لم يتقبل قربانه. فالنفس جبل عظيم شاهق في طريق السير إلى الله تعالى، وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلا بد أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاق عليه، ومنهم من هو سهل عليه، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
وفي ذلك الجبل أودية وعقبات، وشوك ولصوص، يقتطعون الطريق على السائرين ولا سيما أهل الليل المدلجين، فإذا لم يكن معهم عدة الإيمان، ومصابيح اليقين، تتقد بزيت الإخبات، وإلا تعلقت بهم تلك الموانع، وتشبثت بهم تلك القواطع، وحالت بينهم وبين السير.
فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم، لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته. والشيطان على قُلة ذلك الجبل، أي على قمته، يحذر الناس من صعوده وارتفاعه، ويخوفهم منه، فيتفق مشقة الصعود وقعود الشيطان على قُلته، وضعف عزيمة السائر ونيته، فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع. والمعصوم من عصمه الله.
وكلما رقى السائر في ذلك الجبل، اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه، فإذا قطعه وبلغ قُلته، أي قمته، انقلبت تلك المخاوف أمانًا، وحينئذ يسهل السير، وتزول عنه عوارض الطريق، ومشقة عقباتها، ويرى طريقًا واسعًا آمنًا، يفضي به إلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام، وفيه الإقامات قد أعدت لركب الرحمن.
(فصلٌ في منزلة الزهد:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الزهد
قال الله تعالى {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}[النحل:٩٦]