أما وقد عرفت أن لحظة الاحتضار، لحظة امتحان، الموت ما منه فَوْت، الموت أمرٌ محتوم وقدرٌ سابقٌ معلوم كيف تكتحل عينك بنوم حتى ترى حالك بعد اليوم، وكيف تبيتُ وأنت مسرور وأنت لا تعلم عاقبة الأمور.
[*] (قال القرطبي رحمه الله: وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك.
أين استعدادك للقاء ملك الموت؟ .. أين استعدادك لما بعده من أهوال .. في القبر .. وعند السؤال .. وعند الحشر .. والنشر .. والحساب .. والميزان .. وعند تطاير الصحف .. والمرور على الصراط .. والوقوف بين يدي الجبار جل وعلا؟!.
[*] (وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر:
الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه، و لا يدري متى يستدعى؟
وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب، و نسوا فقد الأقران، و ألهاهم طول الأمل.
وربما قال العالم المحض لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً، فيتساهل في الزلل بحجة الراحة، و يؤخر الأهبة لتحقيق التوبة، و لا يتحاشى من غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع.
وينسى أن الموت قد يبغت. فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه، فإن بغته الموت رؤى مستعداً، و إن نال الأمل ازداد خيراً.
(إخواني الأيام لكم مطايا، فأين العدة قبل المنايا، أين الأنفة من دار الأذايا، أين العزائم أترضون الدنايا، إن بلية الهوى لا تشبه البلايا، وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا، وسرية الموت لا تشبه السرايا، وقضية الأيام لا كالقضايا، راعي السلامة يقتل الرعايا، رامي التلف يصمي الرمايا، ملك الموت لا يقبل الهدايا، يا مستورين ستظهر الخبايا، استغفروا الله خجلاً من العثرات، ثم اسكبوا حزناً لها العبرات، عجباً لمؤثر الفانية على الباقية ولبائع البحر الخضم بساقية، ولمختار دار الكدر على الصافية، ولمقدم حب الأمراض على العافية، أيها المستوطن بيت غروره تأهب لإزعاجك، أيها المسرور بقصوره تهيأ لإخراجك، خذ عدتك وقم في قضاء حاجتك قبل فراق أولادك وأزواجك، ما الدنيا دار مقامك بل حلبة إدلاجك.
(ولله درُ من قال:
إلى كم ذا التراخي والتمادي ... وحادي الموت بالأرواخ حادي
فلو كنا جمادا لا تعظنا ... ولكنا أشد من الجماد
تنادينا المنية كل وقت ... وما نصغي إلى قول المنادى
وأنفاس النفوس إلى انتقاص ... ولكن الذنوب إلى ازدياد