إن للموت ألماً لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب، فإن الموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، وأضعف كل جوارحه، فلم يترك له قوة للاستغاثة أما العقل فقد غشيته وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأزبد، ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتحيط به الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
ولقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أفضل الأنبياء والمرسلين وخير البشر أجمعين يعاني من سكرات الموت وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بين يديه ركوة، أو: علبة فيها ماء - يشك عمر - فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه، ويقول:(لا إله إلا الله، إن للموت سكرات). ثم نصب يده فجعل يقول:(في الرفيق الأعلى). حتى قبض ومالت يده.
السكرات: هي الشدائد والكربات.
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) قالت: مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وتشديد الله تعالى على أنبيائه عند الموت رفعة في أحوالهم، وكمال لدرجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله تعالى شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة والمخلطين، فإن تشديده على هؤلاء عقوبة لهم ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا.