[*] (وروى أبو نعيم الحافظ بإسناده أن عمر بن عبد العزيز شيع مرة جنازة من أهله , ثم أقبل على أصحابه ووعظهم , فذكر الدنيا فذمها وذكر أهلها , وتنعمهم فيها , وما صاروا إليه بعدها من القبور , فكان من كلامه أنه قال: إذا مررت بهم فنادهم إن كنت مناديا , وادعهم إن كنت داعياً ومر بعسكرهم , وانظر إلى تقارب منازلهم , سل غنيهم: ما بقي من غناه؟ وسل فقيرهم: ما بقي من فقره؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان تحت الأكفان، وأكلت اللحمان وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقارة، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم وكأنهم ما وطئوا فراشا ًولا وضعوا هنا متكأ، ولا غرسوا شجراً ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات؟
أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، أوصالهم ممزقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضائق، قد تزوجت نساءهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم، فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذته، يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك وأين طيبك ونحورك، وأين كسوتك لصيفك ولشتاءك؟؟ أما رأيته قد زل به الأمر، فلما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقاً ويتلمظ عطشاً، يتقلب في سكرات الموت وغمرته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، هيهات: يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفن الميت ويا مدخله في القبر، وراجعاً عنه، ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم انصرف فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.