وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيار الضلالة؛ وهو وحده موحش غريب طريد وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام. فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، متحضرة في حياتها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان. ويجدها غنية قوية، وهي مشاقة لله!
وهنالك الفتنة الكبرى. أكبر من هذا كله وأعنف. فتنة النفس والشهوة. وجاذبية الأرض، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدعة والاطمئنان. وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة، وفي تصورات أهل الزمان!
فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى. وكان الابتلاء أشد وأعنف. ولم يثبت إلا من عصم الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير الإنسان. وما بالله حاشا لله أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة. فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق؛ وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء. والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع. وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل. وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامداً إلا أصلبها عوداً؛ وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين: النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلَّمون الراية في النهاية. مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار. وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن؛ وبما بذلوا لها من الصبر على المحن؛ وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات. والذي يبذل من دمه وأعصابه، ومن راحته واطمئنانه، ومن رغائبه ولذاته. ثم يصبر على الأذى والحرمان؛ يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل؛ فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام.