ولعلي أكون قد بيَّنتُ جانبًا من المكاره التي حُفت بها الجنة, والتي على المسلم أن يتحمل ما يعرض له منها ويصبر على ذلك ليفوز بنعيم الجنة, وهي وإن كانت تكاليف شاقَّة إلا أنّه لا يُدرك الغالي إلا بالعمل الشاق, وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ».
ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل جبريل-عليه السلام- بعدما رأى حقيقة الجنة وقد حُفت بالمكاره يخشى ألا يدخلها أحد, لذا قال لربّه تعالى: "وعزَّتك لقد خفتُ ألا يدخلها أحد".
(نعيم الجنة فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال:
الجنة فوق ما يخطر على البال أو يدور في الخيال فهل أعددت لها صالح الأعمال قبل طي الآجال، لقد عرفنا الله الجنة .. ترغيباً فيها .. وبين لنا بعضاً من نعيمها وأخفى عنا بعضاً, زيادة في الترغيب والتشويق. لذلك فإن نعيم الجنة مهما وصف, لا تدركه العقول لأن فيها من الخير مالا يخطر ببال أو يدور في الخيال، فهل عرفت الجنة؟!
إنها دار خلود وبقاء .. لا فيها بأس ولا شقاء, ولا أحزان ولا بكاء .. لا تنقضي لذاتها ولا تنتهي مسراتها .. كل ما فيها يذهل العقل ويسحر الفكر .. ويسكر الرشد .. ويصرع اللب ..
هي جنة طابت وطاب نعيمها: فنعيمها باق وليس بفان
هي نور يتلألأ, وريحانة تهتز. وقصر مشيد ونهر مطرد .. وفاكهة نضيجة .. وزوجة حسناء جميلة .. وحلل كثيرة في مقام أبداً, في حبرة ونضرة, في دور عالية سليمة بهية تتراءى لأهلها كما يتراءى الكوكب الدري الغائر في الأفق.
قال تعالى: (تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة ١٦، ١٧]
و تأمل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس و كيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقوموا إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة.