للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا بد للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه ولكن له طول وعرض، فلا بد من قبض طوله وعرضه حتى يتم به الزهد؛ فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر، فإن من يملك طعام يومه فلا يقنع به، وأما عرضه ففي مقدار الطعام وجنسه ووقت تناوله؛ أما طوله فلا يقصر إلا بقصر الأمل، وأقل درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدة الجوع وخوف المرض، ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدخر من غدائه لعشائه، وهذه هي الدرجة العليا. الدرجة الثانية: أن يدخر لشهر أو أربعين يوماً. الدرجة الثالثة: أن يدخر لسنة فقط، وهذه رتبة ضعفاء الزهاد، ومن ادخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهداً محال؛ لأن من أمل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جداً فلا يتم منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدي الناس، كداود الطائي فإنه ورث عشرين ديناراً فأمسكها وأنفقها في عشرين سنة، فهذا لا يضاد أصل الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد، وأما عرضه فبالإضافة إلى المقدار، وأقل درجاته في اليوم والليلة نصف رطل، وأوسطه رطل، وأعلاه مد واحد، وهو ما قدره الله تعالى في إطعام المسكين في الكفارة، وما وراء ذلك فهو من اتساع البطن والاشتغال به، ومن لم يقدر على الاقتصار على مد لم يكن له من الزهد في البطن نصيب، وأما بالإضافة إلى الجنس فأقله كل ما يقوت، ولو الخبز من النخالة، وأوسطه خبز الشعير والذرة، وأعلاه خبز البر غير منخول، فإذا ميز من النخالة وصار حواري فقد دخل في التنعم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلاً عن أوائله. وأما الأدم: فأقله الملح أو البقل والخل، وأوسطه الزيت أو يسير من الأدهان أي دهن كان، وأعلاه اللحم أي لحم كان، وذلك في الأسبوع مرة أو مرتين، فإن صار دائماً أو أكثر من مرتين في الأسبوع خرج عن آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهداً في البطن أصلاً، وأما بالإضافة إلى الوقت فأقله في اليوم والليلة مرة وهو أن يكون صائماً، وأوسطه أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل، ويأكل ليلة ولا يشرب، وأعلاه أن ينتهي إلى أن يطوي ثلاثة أيام أو أسبوعاً وما زاد عليه، ولينظر إلى أحوال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة رضوان الله عليهم في كيفية زهدهم في المطاعم وتركهم الأدم.

فقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء

<<  <  ج: ص:  >  >>