للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[*] قَالَ عَلِيّ رَضيَ اللهُ عَنْهُ لِعَمَّارٍ عَلاَمَ تَتَأَوَّهُ؟ إن ْكَانَ عَلَى الدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُكَ، وإنْ كانَ علَى الآخِرَةِ فَقَدْ رَبِحَتْ تِجَارَتُكَ، يَا عَمَّارُ إنَّيْ وَجَدْتُ لَذّاتِ الدُّنْيَا في أَحْقَرِ الأشْيَاءِ الطَّعَامِ وَأَفْضَلُهُ العَسَلُ وَهُوَ مِنْ حَشَرَةِ، المَشْرُوْبَاتِ وَأَفْضَلْهَا سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ، المَلْبُوْسَاتُ وَأَفْضلُهَا الحَرِيْرُ وَهُوَ مِنْ دُوْدِ القَزِّ، المَشْمُوْمَاتُ وَأَفْضَلُهَا المِسْكُ وَهُوَ مِنْ فَأرَةٍ، المَسْمُوْعَاتُ وَهِيَ أعْرَاضٌ سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ، النِّكَاحُ وَهُوَ مَبَالٌ في مَبَالٍ وَحَسْبُكَ أَنَّ المَرْأةَ تَتَزَيَّا بأَقْبَحِ شَئٍ فِيْهَا: هَذِهِ العِظَةُ تَكْشِفُ لَنَا عَنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ حَيْثُ جَعَلَ لَذَّاتِهَا في أحْقَرِ الأَشياء والله أعلم

فلا تَغُرنّكُم الحَياةُ الدنيا فإنها داٌر بالبلاء مَحفُوفةٌ، وبالفناء معروفة، وبِالغَدر مَوْصُوفَةٌ، كُلُ ما فيها زَوال وهي بينَ أهلِها دُوَلٌ وسِجَال، لا تَدُومُ أهوالُها، ولن يَسْلَمَ مِن شرِها نُزَّالهُا، بينا أهلِها منها في رَخَاءٍ وسُرور، إِذا هم مِنها في بلاء وغُرُور، أَحْوَالٌ مُخْتَلِفة، وتاراتٌ مُتَصَرّفَةٌ.

العيشُ فيها مَذْمُوم، والرخاءُ فيها لا يَدُوم، وإنما أهلهُا فيها أغراضٌ مُسْتَهْدفَة تَرْمِيهم بسهامِها، وتقصِمُهم بِحِمامِها، حتفُه فيها مَقْدُور وحظُّه فيها مَوْفُور.

واعلموا عِبَادَ اللهِ أن ما أنتم فيه مِن زهرةِ الدُنيا على سبيل مَن قد مَضَى مِمَّنْ كان أطولَ منكم أعماراً، وأَشَدَّ مِنكم بَطْشاً، وأَعمَرَ دِياراً، وأبعدَ آثاراً.

فأصْبَحَتْ أموالُهم هامِدَةً مِن بعدِ نُقْلَتِهِم، وأَجْسَادُهُم بالِية وَدِيارُهُم خَالِية، وآثارُهُم عافِية،

فاستبدلُوا بالقُصور الْمُشَيَّدَةِ والنمارِقِ الْمُمَّهَدَةِ الصُّخُورَ والأحجارَ في القُبور التي قَدْ بُنيَ على الخراب فِناؤُهَا، وشُيِّدَ بالتراب بِنَاؤُهَا.

فَمَحَلُّهَا مُقْتَرب، وساكنها مُغْتَرب، بينَ أَهْلَ عِمَارَةٍ مُوْحِشِين، وأَهْلِ مَحَلَّةٍ مُتَشَاغِلِين، لا يَسْتأْنِسُونَ بالعُمْران، ولا يَتَواصَلُون تَواصُلَ الجِيران والإِخوان، على مَا بينهُم مِن قُرْبِ الجِوار، ودُّنُوّ الدار.

<<  <  ج: ص:  >  >>