للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أن النفس والهوى لا يقهران بشيء أفضل من الصوم الدائم، وهو بساط العبادة ومفتاح الزهد وطلع ثمرات الخير، وأجساد العمال من شجراته دائم الجذاذ دائم الإطعام، وهو الطريق إلى مرتبة الصديقين، وما دونه فمزرعة الأعمال، فثمر غرسها وربيع بذرها في تركها، وفقدها في أخذها، وليس معنى الترك الخروج من المال والأهل والولد، ولكن معنى الترك العمل بطاعة الله وإيثار ما عند الله عليها مأخوذة ومتروكة، فهذا معنى الترك لا ما تدعيه المتصوفة الجاهلون. أنت من الدنيا بين منزلتين فإن زويت عنك كفيت المؤنة، وإن صرفت إليك ألزمتها طاعة مولاك، وإن كانت طاعتك لله في شأنها تصلحها ومعصيتك لله في أمرها يفسدها، فدع منك لوم الدنيا واحفظ من نفسك وعملك ما فيه صلاحها، فإن المطيع فيها محمود عند الله إنما تلزمه التهمة وعيب الأخذ لها إذا خان الله فيها، لأن الدنيا مال الله والخلق عباد الله. وهم في هذا المال صنفان: خونة وأمناء، فإذا وقع المال في أيدي الخائنين فهو سبب دمارهم ولا عتب على المال إنما العتب على فعلهم بالمال، وإذا وقع في أيدي الأمناء كان سبب شرفهم وخلاصهم، ولا معنى للمال إنما كسب لهم الشرف عند الله فعلهم بالمال أمانة الله في أموالهم فلحق بهم نفع المال. لا ذنب للمال، الذنب لك، الذنوب إنما تكتسب بالجوارح وليس للضيعة والحانوت جوارح، إنما الجوارح لك وبها تكتسب الذنوب فعلك بمالك أسقطك من عين ربك لا مالك، وفعلك بمالك يصحبك إلى قبرك لا مالك، وفعلك بما لك يوزن يوم القيامة لا مالك.

[*] • قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر:

من تفكر بعواقب الدنيا، أخذ الحذر، و من أيقن بطول الطريق تأهب للسفر. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، و يتحقق ضرر حال ثم يغشاه! و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه.

تغلبك نفسك على ما تظن، و لا تغلبها على ما تستيقن. أعجب العجائب، سرورك بغرورك، و سهوك في لهوك، عما قد خُبِّىء لك. تغتر بصحتك و تنسى دنو السقم، و تفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم. لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، و أبدى مضجع سواك ـ قبل الممات ـ مضجعك. و قد شغلك نيل لذاتك، عن ذكر خراب ذاتك:

كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ... و لم تر في الباقين مايصنع الدهر

فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الريح بعدك و البقر!

<<  <  ج: ص:  >  >>