ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجاتٍٍ متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك.
ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلُح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخَدْشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقَدْح في الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفَلْس بسرقة المال الخطير العظيم.
فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بُدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقَدْراً لذهبت بهم الآراءُ كُلَّ مذهب، وتشعبت بهم الطرقُ كلَّ مَشْعَب، ولعَظُمَ الاختلاف واشتد الخَطبُ، فكفاهم أرحمُ الراحمين وأحكم الحاكمين مُؤنة ذلك، وأزال عنهم كُلفَتَه، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتَّبَ على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النَّكال، ثم بلغ من سَعَة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفاراتٍ لأهلها وطُهرةً تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قَدِمُوا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النَّصُوح والإنابة، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قَتْل، وقَطْع، وجَلْد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير.
فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس، فكانت عقوبته من جنسه، وكالجناية على الدِّين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة، إذ بقاؤه بين أظْهُرِ عباده مَفسدةٌ لهم، ولا خير يُرجى في بقائه ولا مصلحة، فإذا حُبِسَ شره وأُمسك لسانُه وكُفَّ أذاه والتزم الذل والصَّغار وجرَيَان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظْهُرِ المسلمين ضرر عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين.
وجَعَلَهُ أيضاً عقوبة الجناية على الفروج المحرمة لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام.