للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجواب: إذا كان لابد أن نفاضل بين هؤلاء وهؤلاء؛ يعني إذا كان من الصعب أن يسود النموذج المثالي الذي تتكافأ فيه القوتان العلمية والعملية وأردنا أن نفاضل بين هؤلاء الذين غلبت عليهم القوة العلمية مع ضعفهم وانهيارهم عمليًا، وبين قوم أقل منهم علمًا وفكرًا ـ ولا نقول جهالاً أو مبتدعين ـ ولكن أقوى تأثيرًا في الآخرين وأعظم في تقديم النموذج الملتزم العالم العابد الزاهد المتحمس للدين ... فلا شك أن النوع الأخير أو النموذج الأخير ـ وهو أقل في قوته العلمية ـ خير من النموذج الأول صاحب القوة العلمية مع ضعف وخور وكسل وبرود في النواحي العملية؛ إذ النموذج الأول فتنة ومدعاة للفتور، والنموذج الثاني قدوة ومدعاة للعمل والإخلاص، وأصلح قلبًا وأقرب إلى النجاة في الآخرة حيث صلح قلبه وعمله، والنوع الأول جعل جل همه صلاح الكلام والفكرة، وبكلامه صار عظيمًا في عين نفسه وفي أعين الناس ولكن الله يعلم ما في قلبه وعمله من الضعف، ولذلك تظهر في الآخر مفاجآت ... حيث توزع المقاعد في الجنة بمقاييس غير تلك التي توزع على أساسها المقاعد والدرجات في الدنيا، فنرفع فلانًا إلى هذه المكانة أو تلك ونغفل عن فلان ونتجاهله أو لا نفطن له، ويوم القيامة تظهر الحقائق، فهو حقًا "يوم التغابن" ... فكم من مشهور مرفوع في الدنيا قد يكون رَفَعَهُ حُسْنُ كلامه وكَثْرَةُ علومه ورَوْعَةُ أفكاره ولكنه يوم القيامة ليس له قدر يُذْكَر عند الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: ٤٧]، وكم من مغمور في الدنيا لا يشار إليه بالبنان ولا يُتحدث عن عمله ولا يجيد الكلام ولا الجدل ولا التحذلق وهو يوم القيامة من الملوك العظام في الجنة! نعم والله ... {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:٣]. فربما خفضت من لم يتوقع البشر المحجوبون انخفاضهم، ورفعت من لا يُتوَقْع ارتفاعُهم. فممن يقع لهم التغابن والخفض والرفع يوم القيامة أصحاب القوة العلمية والقوة العملية، وذلك أن المتميزون علميًا وفكريًا في الدنيا، إلا من رحم الله، يحسبون أنفسهم هم القوم وإن قصروا في العمل، بل ويعظمهم المتميزون قلبيًا وعمليًا لسلامة قلوبهم وهم لا يدرون أنهم أحسن حالاً ومآلاً عند الله جل وعلا ..

<<  <  ج: ص:  >  >>