للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا استقام زرع الفكر قامت العبرات تسقي ونهضت الزفرات تحصد ودارت رحى التحير تطحن واضطرمت نيران القلق فحصلت للقلوب ملة تتقوتها في سفر الحب.

[*] (وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن المزني، قال: دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في الدنيا راحلًا، وللإخوان مفارقًا، ولكأس المنيّة شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، فلا أدري: أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشأ يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو من الذنب ولم تزل ... تجود وتعفو منّة وتكرّما

فلولاك لم ينجو من إبليس عابد ... وكيف وقد أغوى صفيّك آدما

إخواني: بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظُلَمِ الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوسٍ خائفة، وقلوبٍ واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يَرَى ولا يُرَى:

(ولله درُ من قال:

أتيتك راجيًا يا ذا الجلال ... ففرّج ما ترى من سوء حالي

عصيتك سيّدي ويلي بجهلي ... وعيب الذنب لم يخطر ببالي

إلى من يشتكي المملوك إلا ... إلى مولاه يا مولى الموالي

فويلي ليت أمي لم تلدني ... ولا أعصيك في ظلم الليالي

وها أنا ذا عبيدك عبد سوء ... ببابك واقف يا ذا الجلال

فإن عاقبت يا ربي فإني ... محق بالعذاب وبالنكال

وإن تعفو فعفوك أرتجيه ... ويحسن إن عفوت قبيح حالي

(معاشر التائبين: تعالوا نبكي على الذنوب فهذا مأتم الحزان، تعالوا نسكب المدامع. ونشتكي الهجران، لعل زمان الوصال يعود كما كان.

هذا بياض الشيب ينذر بخراب الأوطان، يا من تخلف حتى شاب، وقد رحلت الأظعان.

يا تائهًا في تيه التخلف، يا حائرًا في بريّة الحرمان، نهارك في الأسباب، وليلك في الرقاد، هذه الخسارة عيان، إذا ولى الشباب ولم يربح، ففي الشباب حتى ذبل من معاصي الرحمن، فعند إقبال المشيب، ندمت على ما قد كان. إن لم يشاهدك رفيق التوفيق، وإلا ففي الحرمان حرمان. وقد يرحم المولى من ضعف عن الأسباب {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد ٣٩].

(ولله درُ من قال:

أيا نفس توبي قبل أن ينكشف الغطا ... وأدعى إلى يوم النشور وأجزع

<<  <  ج: ص:  >  >>