للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولأجل هذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (١).

لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه.

ولعل هذا هو السر في استجابة دعوة المظلوم، والمسافر، والصائم؛ للكسرة في قلب كل واحد منهم؛ فإن لوعة المظلوم تُحْدِثُ عنده كسرة في قلبه، وكذلك المسافر في غربته يجد كسرة في قلبه، وكذلك الصوم، فإنه يكسر سورة النفس السَّبُعية الحيوانية.

(ومن أسرار التوبة: أن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات: ذلك أن لله على القلوب أنواعاً من العبودية، من الخوف، والخشية، والإشفاق، والوجل وتوابعها من المحبة، والإنابة، وابتغاء الوسيلة.

وهذه العبوديات لها أسباب تُهَيّجها وتبعث عليها، وكلما قيض الرب تعالى لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك، المهيجة له فهو من أسباب رحمته، ورُبَّ ذنبٍ قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق، والوجل، والإنابة، والمحبة ما لا يهيجه كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سبباً لاستقامة العبد، وفراره إلى الله، وبعده عن طريق الغي.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله: وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار.

قالوا: وكيف ذلك؟

قال: يعمل الذنب فلا يزال نُصْبَ عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى ذكر ذنبه؛ فيحدث له انكساراً، وتوبة، واستغفاراً، وندماً؛ فيكون ذلك سبب نجاته.

ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجباً، وكبراً، ومِنَّةً، فتكون سبب هلاكه.

فيكون الذنب موجباً لتَرَتُّب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه مُنَكِّساً رأسه خجلاً، باكياً، نادماً، مستقيلاً ربَّه.

وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبراً وازدراءً للناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.

ولا ريب أن هذا المذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المانِّ بها وبحاله على الله وعلى عباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك؛ فالله شهيد على ما في قلبه، ويكاد يعادي الخلق إذا لم يعظموه، ويخضعوا له، ويجد في قلبه بُغضةً لمن لم يفعل به ذلك.

ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامناً؛ ولهذا تراه عاتباً على من لم يعظمه، ويعرف له حقه، متطلباً لعيبه في قالب حمية لله، وغضب له.


(١) أخرجه مسلم (٤٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>