وقيل في ذلك:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكى الرحيم إلى الذي لا يرحم
والشكوى نوعان: شكوى إلى الله عز وجل وهذه لا تنافي الصبر، كقول يعقوب - عليه السلام -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} (يوسف: من الآية ٨٦) مع قوله:: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف: من الآية ٨٣)
والنوع الثاني: شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال، فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله.
وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر، ولا يناقض هذا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما أعطا أحد عطاءاً خيراً وأوسع من الصبر "، فإن هذا بعد نزول البلاء فساحة الصبر أوسع الساحات، أما قبل نزوله فساحة العافية أوسع.
والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب، وحفظ من خطب الحجاج: " إقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء، فرحم الله امرءاً جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخاطمها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
والنفس لها قوتان: قوة الإقدام وقوة الإحجام، .. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكا عما يضره، ومن الناس من يصبر على قيام الليل ومشقة الصيام، ولا يصبر على نظرة محرمة، ومنهم من يصبر على النظر والإلتفات إلى الصور، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد.
وقيل: الصبر شجاعة النفس، ومن ها هنا أخذ القائل قوله: " الشجاعة صبر ساعة "، والصبر والجزع ضدان، كما أخبر سبحانه وتعالى عن أهل النار: {سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم: من الآية ٢١)
(أنواع الصبر باعتبار مُتَعَلَقِه:
الصبر باعتبار مُتَعَلَقِه ثلاثة أقسام:
(١) صبر على طاعة الله.
(٢) صبر عن معصية الله.
(٣) صبر على أقدار الله المؤلمة.
مسألة: كيف يحصل الصبر على الطاعة؟
الصبر على الطاعة ينشأُ من معرفة أسباب الصبر على المعاصي ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أَقوى أسبابها: الإيمان والمحبة، فكلما قوى داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
مسألة: أي الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين: