قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: فأكب عليه رسول الله فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رقة شديدة فقال أبو بكر: بأبي وأمي يارسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وأدع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعاها إلى الله فأسلمت (١).
الشاهد على زهده:
إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم حريص على الاقتداء بهؤلاء الصحب الكرام فقد كانوا آيةً في الزهد في الدنيا والعزوف عنها والإقبال على الآخرة متحملين من الأذى والشدة واللأواء ما تنوء به الجبال، وما ذلك إلا لاستصغار الدنيا في أعينهم وإيثار مصالح الآخرة على مصالح الدنيا، دون أدنى اهتمام للمحافظة على وجاهتهم في قومهم، فيصيبه من أذى القوم وسفههم، مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان، فأبْصِرْ وَتعَلَم من أبي بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه الذي لا تأخذه لومة لائم في نصرة دين الله والعمل له والدفاع عن رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - و لم يعد يهمه -بعد إسلامه- إلا أن تعلوا راية التوحيد، ويرتفع النداء لا إله إلا الله محمد رسول الله في أرجاء مكة حتى لو كان الثمن حياته، وكاد أبو بكر فعلاً أن يدفع حياته ثمناً لعقيدته وإسلامه.
- دفاع أبي بكر الصديق عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: رأيت عقبة بن أبي معيط، جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم. [غافر:٢٨].
(١) السيرة النبوية لابن كثير (١/ ٤٣٩ - ٤٤١)؛ البداية والنهاية (٣/ ٣٠).