فإِذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فني في وجوده من لم يكن كأنه لم يكن وبقى من لم يزل، واضمحلت الممكنات في وجوده الأزلي الدائم بحيث صارت كالظلال التي يبسطها ويمدها ويقبضها، فيستغنى العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى بها عن فاقاته وحاجاته. وإِنما كان هذا عندهم أَفضل مما قبله لأَن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إِلى وجود العبد، وهذا الشهود الثاني سائر الموجودات كلها سوى الأَول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت كأوليتها وهو العدم، فأَفنتها أَولية الحق تبارك وتعالى، فبقيَ العبد محواً صرفاً وعدماً محضاً، وإِن كانت آنيته مشخصة مشاراً إِليها لكنها لما نسبت إِلى أَولية الحق عَزَّ وجَلَّ اضمحلت وفنيت وبقى الواحد الحق الذي لم يزل باقياً، فاضمحل ما دون الحق تعالى في شهود العبد كما هو مضمحل في نفسه، وشهد العبد حينئذ أَن كل شيء ما سوا الله باطل، وأَن الحق المبين هو الله وحده، ولا ريب أَن الغنى بهذا الشهود دائم من الغنى بالذي قبله، وليس هذا مختصاً بشهود أَوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب جل جلاله يستغنى العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.