وعلى قدر شرف النفس وعلو همتها تكون هذه الغيرة ثم الغيرة أيضا نوعان غيرة الحق تعالى على عبده وغيرة العبد لربه لا عليه فأما غيرة الرب على عبده فهي أن لا يجعله للخلق عبدا بل يتخذه لنفسه عبدا فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين بل يفرده لنفسه ويضن به على غيره وهذه أعلى الغيرتين، وغيرة العبد لربه نوعان أيضا غيرة من نفسه وغيرة من غيره فالتي من نفسه أن لا يجعل شيئا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه والتي من غيره أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون وأما الغيرة على الله فأعظم الجهل وأبطل الباطل وصاحبها من أعظم الناس جهلا وربما أدت بصاحبها إلى معاداته وهو لا يشعر وإلى انسلاخه من أصل الدين والإسلام وربما كان صاحبها شرا على السالكين إلى الله من قطاع الطريق بل هو من قطاع طريق السالكين حقيقة وأخرج قطع الطريق في قالب الغيرة وأين هذا من الغيرة لله التي توجب تعظيم حقوقه وتصفية أعماله وأحواله لله فالعارف يغار لله والجاهل يغار على الله فلا يقال أنا أغار على الله ولكن أنا أغار لله وغيرة العبد من نفسه أهم من غيرته من غيره فإنك إذا غرت من نفسك صحت لك غيرتك لله من غيرك وإذا غرت له من غيرك ولم تغر من نفسك فالغيرة مدخولة معلولة ولا بد فتأملها وحقق النظر فيها فليتأمل السالك اللبيب هذه الكلمات في هذا المقام الذي زلت فيه أقدام كثير من السالكين والله الهادي والموفق المثبت.
كما حكى عن واحد من مشهوري الصوفية أنه قال لا أستريح حتى لا أرى من يذكر الله يعني غيرة عليه من أهل الغفلة وذكرهم والعجب أن هذا يعد من مناقبه ومحاسنه وغاية هذا أن يعذر فيه لكونه مغلوبا على عقله وهو من أقبح الشطحات «وذكر الله على الغفلة وعلى كل حال خير من نسيانه بالكلية» والألسن متى تركت ذكر الله الذي هو محبوبها اشتغلت بذكر ما يبغضه ويمقت عليه فأي راحة للعارف في هذا وهل هو إلا أشق عليه وأكره إليه.
وقول آخر: لا أحب أن أرى الله ولا أنظر إليه فقيل له كيف قال غيرة عليه من نظر مثلي.
«فانظر إلى هذه الغيرة القبيحة الدالة على جهل صاحبها» مع أنه في خفارة ذله وتواضعه وانكساره واحتقاره لنفسه ومن هذا ما يحكى عن الشبلي أنه لما مات ابنه دخل الحمام ونور لحيته حتى أذهب شعرها كله فكل من أتاه معزيا قال إيش هذا يا أبا بكر قال وافقت أهلي في قطع شعورهم فقال له بعض أصحابه أخبرني لم فعلت هذا؟