(وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغالياً فيه حتى يفوت الوقت أو يردد تكبيره الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئا من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن ياكل شيئا من بلاد الإسلام وكان يتقوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان، «فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشديد غال» فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان «إما تقصير وتفريط وإما إفراط وغلو» فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه فإن وجد فيه فتورا وتوانيا وترخيصا أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك حتى ربما ترك العبد المأمور جملة، وإن وجد عنده حذرا وَجِدَاً وتشميرا ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسوَّل له أن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا وينبغي لك أن تزيد على العاملين وان لا ترقد إذا رقدوا و لا تفطر إذا افطروا وان لا تفتر إذا فتروا وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعا وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها ونحو ذلك من الإفراط والتعدي فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم كما يحمل الأول على التقصير دونه وان لا يقربه ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم هذا بان لا يقربه ولا يدلو منه وهذا بان يجاوزه ويتعداه وقد فتن بهذا أكثر الخلق ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط والله المستعان.
(ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمته ممتثلا ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر فان ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والتسليم ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه كما حمل ذلك كثيرا من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوف.