للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{تنبيه}: (وَرُبَّمَا سَاعَدَ النَّاسَ مَعَ ظُهُورِ رِيَائِهِ عَلَى الاسْتِهْزَاءِ بِنَفْسِهِ، كَاَلَّذِي حُكِيَ أَنَّ زَاهِدًا نَظَرَ إلَى رَجُلٍ فِي وَجْهِهِ سَجَّادَةٌ كَبِيرَةٌ وَاقِفًا عَلَى بَابِ السُّلْطَانِ فَقَالَ: مِثْلُ هَذَا الدِّرْهَمِ بَيْنَ عَيْنَيْك وَأَنْتَ وَاقِفٌ هَهُنَا؟ فَقَالَ: إنَّهُ ضُرِبَ عَلَى غَيْرِ السِّكَّةِ. وَهَذَا مِنْ أَجْوِبَةِ الْخَلاَعَةِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا تَهْجِينَ الْمَذَمَّةَ. وَلَقَدْ اسْتَحْسَنَ النَّاسُ مِنْ الاشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَوْلَهُ، وَقَدْ خَفَّفَ صَلاَتَهُ مَرَّةً، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ: خَفَّفْت صَلاَتَك جِدًّا. فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهَا رِيَاءٌ. فَتَخَلَّصَ مِنْ تَنْقِيصِهِمْ بِنَفْيِ الرِّيَاءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَرَفْعِ التَّصَنُّعِ فِي صَلاَتِهِ. وَقَدْ كَانَ النِّكَارُ لَوْلاَ ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ وَاللُّوَّمُ لاَحِقًا بِهِ. وَمَرَّ أَبُو أُمَامَةَ بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَنْتَ لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِك. فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مِنْهُ حَسَنًا؛ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِالرِّيَاءِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ صَارَ الرِّيَاءُ أَغْلَبَ صِفَاتِهِ، وَأَشْهَرَ سِمَاتِهِ، مَعَ أَنَّهُ آثِمٌ فِيمَا عَمِلَ، أَنَمُّ مِنْ هُبُوبِ النَّسِيمِ بِمَا حَمَلَ.

وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: أَفْضَلُ الزُّهْدِ إخْفَاءُ الزُّهْدِ.

وَرُبَّمَا أَحَسَّ ذُو الْفَضْلِ مِنْ نَفْسِهِ مَيْلاً إلَى الْمُرَاءَاةِ، فَبَعَثَهُ الْفَضْلُ عَلَى هَتْكِ مَا نَازَعَتْهُ النَّفْسُ مِنْ الْمُرَاءَاةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي فَضْلِهِ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ أَحَسَّ عَلَى الْمِنْبَرِ بِرِيحٍ خَرَجَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي قَدْ مَثَلْت بَيْنَ أَنْ أَخَافَكُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ أَنْ أَخَافَ اللَّهَ فِيكُمْ، فَكَانَ أَنْ أَخَافَ اللَّهَ فِيكُمْ أَحَبَّ إلَيَّ إلا وَإِنِّي قَدْ فَسَوْتُ، وَهَا أَنَا نَازِلٌ أُعِيدُ الْوُضُوءَ. فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ زَجْرًا لِنَفْسِهِ لِتَكُفَّ عَنْ نِزَاعِهَا إلَى مِثْلِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>