للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ الْتِمَاسًا لِثَوَابِهَا وَرَغْبَةً فِي الزُّلْفَةِ بِهَا.

فَهَذَا مِنْ نَتَائِجِ النَّفْسِ الزَّاكِيَةِ، وَدَوَاعِي الرَّغْبَةِ الْوَافِيَةِ، الدَّالَيْنِ عَلَى خُلُوصِ الدِّينِ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْعَامِلِينَ، وَأَعْلَى مَنَازِلِ الْعَابِدِينَ. وَقَدْ قِيلَ: النَّاسُ فِي الْخَيْرِ أَرْبَعَةٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ ابْتِدَاءً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ اقْتِدَاءً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ اسْتِحْسَانًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ حِرْمَانًا. فَمَنْ فَعَلَهُ ابْتِدَاءً فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ فَعَلَهُ اقْتِدَاءً فَهُوَ حَكِيمٌ، وَمَنْ تَرَكَهُ اسْتِحْسَانًا فَهُوَ رَدِيءٌ، وَمَنْ تَرَكَهُ حِرْمَانًا فَهُوَ شَقِيٌّ. ثُمَّ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ حَالَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا فِيهَا، وَقَادِرًا عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهَا. فَهِيَ أَفْضَلُ الْحَالَتَيْنِ، وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ. عَلَيْهَا انْقَرَضَ أَخْيَارُ السَّلَفِ، وَتَتَبَّعَهُمْ فِيهَا فُضَلاَءُ الْخَلَفِ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) كانت عندي امرأةٌ من بني أسد فدخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال من هذه؟ قلت فلانة لا تنام من الليل ـ تذكر من صلاتها ـ فقال مَهْ؟ عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل الله حتى تملوا.

مَهْ: كلمة نهي وزجر بمعنى ما هذا؟

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: الْقَصْدُ وَالدَّوَامُ وَأَنْتَ السَّابِقُ الْجَوَادُ. وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسَرَّةٌ إلا فِي طَاعَتِهِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قُلْت لِرَاهِبٍ: مَتَى عِيدُكُمْ؟ قَالَ: كُلُّ يَوْمٍ لاَ أَعْصِي اللَّهَ فِيهِ فَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ. اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَقَاصِدِ الطَّاعَةِ مَا أَبْلَغَهُ فِي حُبِّ الطَّاعَةِ، وَأَحَثَّهُ عَلَى بَذْلِ الاسْتِطَاعَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>