حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ: يعني: حتى متم، ودفنتم في المقابر فهم استمروا على هذا اللهو، أو استمروا على هذا التكاثر الذي أغفلهم عن الآخرة، حتى وضعوا في قبورهم، وهذا الانشغال عن أمر الآخرة إنما جاء من الغفلة التي أورثها التكاثر؛ ولهذا قال الله -جل وعلا- مبينا أن الغفلة تجعل الإنسان يعرض عما أمامه:
قال تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ}[الأنبياء: ١]
وقوله جل وعلا: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ما قال الله -جل وعلا- حتى صرتم إلى الآخرة، ولكن قال: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ليبين للعباد أن هناك رجعة بعد الموت؛ لأن كل زائر يرجع، فالإنسان إذا زار أحدا بعد هذه الزيارة يرجع إلى أهله، فكذلك هذا الميت إذا مات، ووضع في قبره فهو زائر؛ لأن له مثوًى أخيرا، وهو الجنة، أو النار.
ولهذا قال العلماء: لا يصح أن يقال: دفن في مثواه الأخير؛ لأن القبر ليس مثوى أخيرا، وإنما المثوى الأخير الجنة أو النار، كما قال الله -تعالى عن النار:(فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)[النحل: ٢٩]
فالمثوى الحقيقي هو ما يُرَدُّ إليه العبد في الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار، وأما القبور والوضع فيها والدفن فيها، فإنما هو زيارة فقط، بعدها يرجع العبد إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وهذه الآية خرجت أو هذه الآيات خرجت مخرج الذم، يعني: أن الإنسان الذي يصنع ذلك هو مذموم؛ لأنه انشغل بما لا ينفعه عما ينفعه؛ ولهذا ذم الله -جل وعلا- الاشتغال بالدنيا مع تضييع الآخرة فقال جل وعلا:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون:٩]
فتهلككم بسبب التنافس، التنافس يتضمن إيثار الدنيا على الآخرة، وهذا يتضمن طلب المال أو غيره من حظوظ الدنيا من غير حله، ويؤدي إلى الشح وإلى البخل بما أوجب الله، ولهذا أثنى الله على أولئك الرجال رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: ٣٧]