[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي حميد الشامي، قال: كتب الحسن على عمر بن عبد العزيز: اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلولة. العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، ولألبابها دامغة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة. فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق له حين أخبر عنها مدكر، فأبت القلوب لها إلا حباً، وأبت النفوس بها إلا ضناً، وما هذا منالها إلا عشقاً، ومن عشق شيئاً لم يعقل غيره، ومات في طلبه أو يظفر به، فهما عاشقان طالبان لها؛ فعاشق قد ظفر بها واغتر وطغى ونسي بها المبدأ والمعاد. فشغل بها لبه، وذهل فيها عقله، حتى زلت عنها قدمه، وجاءته أسر ما كانت له منيته فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واشتدت كربته مع ما عالج من سكرته. واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرة الموت بغصته، غير موصوف ما نزل به. ولآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته فذهب بكربه وغمه لم يدرك ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب والنصب. خرجا جميعاً بغير زاد، وقدما على غير مهاد.
فاحذرها الحذر كله فإنها مثل الحية لين مسها وسمها يقتل، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما عانيت من فجائعها وأيقنت به من فراقها، وشدد ما اشتد منها لرخاء ما يصيبك وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلاً عليه انقلبت به، فالسار فيها غار، والنافع فيها غدا ضار، وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وآخر الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر العاشق الوامق، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يدري ما هو آت فيها فينتظر.