سادساً: أن محبها أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب فى دوره الثلاث: يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه، فهذا أشد الناس عذاباً فى قبره، يعمل الهمّ والحزنُ والغم والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه.
والمقصود: أن محب الدنيا يعذب فى قبره، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى:{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}(التوبة: الآية: ٥٥).
[*] قال بعض السلف: " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها ".
سابعا: أن عاشقها ومحبها الذى يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحقيقة، والمنام على اليقظة، والظل الزائل على النعيم الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد فى أرغد عيش بحياة إنما هى أحلام نوم، أو كظل زائل، إن اللبيب بمثلها لا يخدع.
وكان بعض السلف يتمثل هذا البيت:
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ... إن اغتراراً بظل زائل حمق
[*] قال يونس بن عبد الأعلى: " ما شبهت الدنيا إلا كرجل نام فرأى فى منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه ".
وأشبه الأشياء بالدنيا: الظل تحسب له حقيقة ثابتة وهو فى تقلص وانقباض فتتبعه لتدركه فلا تلحقه، وأشبه الأشياء بها السراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب، وأشبه الأشياء بها: عجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر، غدارة بالأزواج، تزينت للخطاب بكل زينة، وسترت كل قبح، فاغتر بهامن لم يجاوز بصره ظاهرها، فطلب النكاح، فقالت: لا مهر إلا فقد الآخرة، فإننا ضرتان، واجتماعنا غير مأذون فيه ولا مستباح، فآثر الخطاب العاجلة، وقالوا: ما على مَن واصل حبيبته من جناح، فلما كشف قناعها، وحل إزارها، إذا كل آفة وبلية، فمنهم من طلق واسترح، ومنهم من اختار المقام، فما استتمت ليلة عرسه إلا بالعويل والصياح.