للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان سبب وفاة عمر بن عبد العزيز أن مولى له سمَّه في طعام أو شراب وأعطي على ذلك ألف دينار، فحصل له بسبب ذلك مرض، فأُخبر أنه مسموم، فقال: لقد علمت يوم سُقيت السُّم، ثم استُدعي مولاه الذي سقاه، فقال له: ويحك ما حملك على ما صنعت، فقال: ألف دينار أُعطيتها، فقال: هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك.

أتدرون كم تولى الخلافة؟ سنتين وخمسة أشهر وأياماً، لكنها عند الله - عز وجل - أفضل من قرنين، إنني أعرف أناسًا في التاريخ، تولى الواحد منهم خمسين سنة، فلما مات لعنه المسلمون، وإن بعضهم تولى أربعين سنة، فلما مات بشّر بعض المسلمين بعضهم بموته، فليس العمر بالكثرة، العمر بالبركة، تولى سنتين، فأزال الظلم، فتح بابه، فتح صدره، فتح عينه، فتح قلبه ففتح الله عليه.

ولما اشتد به المرض تحولت الملايين من أبناء أمته إلى أطفال، يوشك اليتم أن يحيق بهم حين يفقدون أباهم .. الجياع الذين شبعوا .. والعراة الذين اكتسوا .. والخائفون الذين أمنوا .. والمستضعفون الذين سادوا .. واليتامى الذين وجدوا فيه أباهم .. والأيامى اللاتي وجدن فيه عائلهن .. والضائعون الذين وجدوا فيه ملاذهم بعد الله .. كل هؤلاء وأولئك في شعبه وأمته سحقتهم أنباء مرضه الدَّاهم.

ولما حضرته سكرات الموت أمر بدعوة أبنائه فجاءوا مسرعين اثني عشر ولداً وبنتاً، شعثاً غبراً، قد زايلت جسومهم الشاحبة نضرة النعيم!! .. وجلسوا يحيطون به، وراح يُعانقهم بنظراته الحانية الآسية .. وراح يودعهم بقوله: يا بني إن أباكم خُيِّر بين أمرين، أن تستغنوا ويدخل النار أو تفتقروا ويدخل الجنة، فاختار الجنة وآثر أن يترككم لله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين وقال لهم: والله ما خلّفت لكم من الدنيا شيئًا - عنده غرفة واحدة - إن كنتم صالحين فالله يتولى الصالحين، وإن كنتم فجَرة فلن أُعينكم بمالي على الفجور. تعالوا، فاقتربوا فقبّلَهم واحدًا واحدًا، ودعا لهم، وكأن قلبه يُسَلُّ من بين جوارحه، وخرج أبناؤه.

<<  <  ج: ص:  >  >>