رابعاً: أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه فى الآخرة باشتغاله عنه بمحبوه، والناس ها هنا مراتب: فمنهم من يشغله محبوبه عن الإيمان وشرائعه، ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات، ومنهم من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها - وإن قام بغيره - ومنهم من يشغله عن القيام بالواجب فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى، فيفرط فى وقته وفى حقوقه، ومنهم من يشغله عن عبودية قلبه فى الواجب، وتفريغه لله عند أدائه، فيؤديه ظاهراً لا باطناً، وأين هذا من عشاق الدنيا ومحبيها، هذا من أندرهم وأقل درجات حبها أن يشغل عن سعادة العبد، وهو تفريغ القلب لحب الله، و لسانه لذكره، وجمع قلبه على لسانه، وجمع لسانه وقلبه على ربه، فعشقها ومحبتها تضر بالآخرة ولا بد، كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا.
خامساً: أن محبتها تجعلها أكبر همّ العبد مما يضر به ضرراً بليغاً كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له.
[من كانت الآخرة همّه]: يعني: أي شغله الشاغل، يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة، كان جزائه ما يلي:
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة:
[ومن كانت الدنيا همّه]: فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]
[جعل الله فقره بين عينيه]: يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[وفرَّق عليه شمله]: فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد.
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]: فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.