للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ) .

ــ

[نيل الأوطار]

قَوْلُهُ: (أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، وَقَالُوا عِنْدَ سُؤَالِهِ عَنْ الشَّهْرِ: شَهْرٌ حَرَامٌ، وَعِنْدَ سُؤَالِهِ عَنْ الْبَلَدِ: بَلَدٌ حَرَامٌ. وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: " فَسَكَتَ فِي الثَّلَاثَةِ مَوَاضِعَ ". وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ الْبَابِ وَنَحْوِهِ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ.

قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ يَوْمَ النَّحْرِ إنَّمَا تُشْرَعُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: إنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ. وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: إنَّ بَعْضَهُمْ بَادَرَ بِالْجَوَابِ، وَبَعْضُهُمْ سَكَتَ. وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ إنَّهُمْ فَوَّضُوا الْأَمْرَ أَوَّلًا كُلُّهُمْ بِقَوْلِهِمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَلَمَّا سَكَتَ أَجَابَهُ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ.

وَقِيلَ: وَقَعَ السُّؤَالُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ بِلَفْظَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فَخَامَةٌ لَيْسَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَقَوْلِهِ فِيهِ: " أَتَدْرُونَ؟ " سَكَتُوا عَنْ الْجَوَابِ بِخِلَافِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ، أَشَارَ إلَى هَذَا الْكَرْمَانِيُّ. وَقِيلَ: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتِصَارٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرَةَ، فَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ قَوْلَهُمْ قَالُوا: " يَوْمٌ حَرَامٌ " بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ قَرَّرُوا ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا: بَلَى. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ.

وَالْحِكْمَةُ فِي سُؤَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثَّلَاثَةِ وَسُكُوتِهِ بَعْدَ كُلِّ سُؤَالٍ مِنْهَا مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِاسْتِحْضَارِ فُهُومِهِمْ، وَلْيُقْبِلُوا عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِمْ وَيَسْتَشْعِرُوا عَظَمَةَ مَا يُخْبِرُهُمْ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ. . . إلَخْ " مُبَالَغَةٌ فِي بَيَانِ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. اهـ.

وَمَنَاطُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: " كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا " وَمَا بَعْدَهُ ظُهُورُهُ عِنْدَ السَّامِعِينَ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْبَلَدِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ كَانَ ثَابِتًا فِي نُفُوسِهِمْ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فَكَانُوا يَسْتَبِيحُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَأَ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَحْرِيمَ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَلَدِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ، فَلَا يَرِدُ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَخْفَضَ رُتْبَةً مِنْ الْمُشَبَّهِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اعْتَادَهُ الْمُخَاطَبُونَ قَبْلَ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ قَوْلُهُ: (أَلَيْسَتْ الْبَلْدَةُ) كَذَا وَقَعَ بِتَأْنِيثِ الْبَلْدَةِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " أَلَيْسَ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟ " وَفِي أُخْرَى لَهُ: " أَلَيْسَ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ؟ " قَالَ الْخَطَّابِيِّ: يُقَالُ: إنَّ الْبَلْدَةَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَكَّةَ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل: ٩١] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَامِلِ وَهِيَ

<<  <  ج: ص:  >  >>