وهذا يدعونا أن نكرر هنا ما قلناه مراراً من أن تاريخنا الفكري -مثل تاريخنا السياسي- في حاجة إلى مراجعة، وإعاد قراءة، تقوم على تحليل نصوص الأئمة، وقراءة آثارهم، والحكم عليهم من داخلها، ونبذ هذه الأحكام العشوائية، التي يقولها الخصوم بعضهم في بعض، ويتناقلها الناس، وتشيع، وتغطي على الأعين والبصائر، وتصبح حقائق، وهي محض زيف وهوى.
بابةٌ أخرى:
لم يكتف شيخ الإسلام ابن تيمية بتضعيف إمام الحرمين في الحديث، بل تعرض لمنزلته في الفقه، وفي المذهب الشافعي، فأزرى به، وحطَّ عليه، وجعله لا شأن له في المذهب، ولا وزن له بين علماء الشافعية، وذلك عندما قال:
" ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي فإذا لم يسوّغ أصحابهم أن يُعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه، كيف يكون حالهم في غير هذا، وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يُتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل واحدة من مسائل الفروع، فكيف يُتخذ إماماً في أصول الدين؟ مع العلم بأنه إنما نبل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة.
وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقلٌ جمعه، أو بحث تفطن له، فلا يُجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه، فكيف (بالكلام) الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بالشرك بالله ذنب أعظم منه " (١).
وكنا نود ألا تدفع الخصومة مع الأشاعرة والمؤِّولة شيخ الإسلام إلى الدخول في هذا الباب، وأن يقصرها على الجانب الكلامي.
فشيخ الإسلام بهذا أنكر الشمس في رابعة النهار، فالشافعية يحلون إمام الحرمين بالمحل الأعظم، ومدار فقههم على ما قاله إمام الحرمين، ويكفي أنهم يجميع طبقاتهم منذ وفاة إمام الحرمين لا يذكرونه في كتبهم إلا بـ (الإمام) مطلقاً، فحيثما
(١) الفتاوى الكبرى، القاهرة، دار الريان، ١٤٠٨ هـ (في ستة أجزاء) جزء ٦ ص ٦١٦.