لكن انظر عملَ (محمد أبو الفضل إبراهيم) في تاريخ الطبري، وعمل إحسان عباس في الوفيات لابن خلكان، وفي الفوات لابن شاكر، وعمل كبار المحققين وشيوخهم عامّة، تجد نصاً مستقيماً، لا تصحيف، ولا تحريف، ولا خلل ولا اضطراب، وتجد أن عمل المؤلف خلص له، فخرج كتابه على النحو الذي أراده، وبقي المحقق متوارياً خلف النص، لا يظهر قلمه إلا " فيما دعت ضرورة البيان إليه " على حد تعبير الشيخ الجليل عبد الله دراز، فنادراً ما تجد تعليقاً في تحقيقات هؤلاء الأعلام، ولكن حينما تعثر على هذا التعليق النادر تدرك أنه كان ضرورة اقتضاها إما استقامة العبارة وسلامتها، أو فهم المرمى والمغزى الذي يريده صاحب الكتاب.
وأستطيع أن أتخذ هذا مقياساً للحكم على هذه التعليقات وقيمتها، فكل تعليق يستطيع قارىء الكتاب ودارسه أن يقرأ كلام المؤلف، ويفهم مراده دونه، فهو نافلة، قد يكون حلْية وزينة، أو تحسينياً، كما يعبر الأصوليون، وقد يصل إلى أن يكون ثقلا، وغثاثة، وغتامة، أو مجلبة للضيق والغم.
هل من عذر لهؤلاء؟
نستطيع أن نميز بين هؤلاء طائفتين، طائفة تطلعت إلى سوق النشر، فرأتها ذات بريق، وضجيج وعجيج، ولها أعلام وبيارق، ووراءها قطوف وثمار، وعجزت أن تدخلها من أي باب، فلم تجد غير باب التحقيق، فولجت منه جهلاً واجتراءً، وذهولاً وغفلةً عن معنى التحقيق، ظانين أنه مجرد نقل من ورقٍ بالٍ عتيق، إلى ورق ابيضَ صقيل، وقد عبرت الدكتورة بنت الشاطىء عن عمل هؤلاء بقولها:" إنهم لم يقصدوا إلى شيء من النشر العلمي، ولا عنَّاهم أن يثقلوا على أنفسهم ببعض أعبائه وتبعاته، ولا أن يضبطوا أقلامهم بشيء من نظمه ومناهجه، وإنما اتخذوا النشر وسيلة ارتزاق فحسب، وجعلوا طبع المخطوطات تجارة، لا مجال فيها لتقدير حرمة النصوص، أو احترام أمانة العلم " اهـ بنصه (١).
(١) تراثنا بين شرق وغرب -محاضرات ألقتها على الدارسين بمركز تحقيق التراث، بدار الكتب بمصر- مطبوعة على الآلة الكاتبة ص ٦.