للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فيها، فقال بعضهم: الهارونية هذه، ومضمونها التسبُّبُ إلى إسقاط الاستبراء.

وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أن الرشيد غاظه شيء من بعض حظاياه، وكانت في بيتٍ، فحلف لا تخرج منه، وراجع العلماءَ، فلم يجدوا للبرّ موضعاً، فقال أبو يوسف: الوجه أن تضرب عليها خيمةً تسترها عن الغِلمة، ثم تنقض البيتَ، فتخرج، ولا يحنث أمير المؤمنين، فإنها لا تكون خارجة من البيت المشار إليه.

وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أنه نظر إلى الجواري اللواتي خلّفهن عليه أبوه، فمال إلى واحدة منهن، فذكرت أن [أباه] (١) كان أصابها، فازداد حرصاً عليها، ولم يؤْثر اقتحام الحرمة، فقال أبو يوسف: لا يقبل قولُها فيما ادّعته من الإصابة (٢).

قال أئمتنا: أما مسألة اليمين المعقودِ على المنع من الخروج من البيت، فجوابنا فيها جوابُ أبي يوسف والسبب فيه أن الحنث والبرّ معقودان على البيت، وفي هذه انعدامُ متعلّقِ اليمين برّاً وَحِنثاً، فلا وجه إلا ما قاله أبو يوسف.

وأما ادعاء الجاريةِ إصابةَ الأب، فجوابنا يوافق جوابَ أبي يوسف؛ فإن الأصل عدمُ الإصابة، والملك على الجملة مسلّط، فلا يقبل قولُها.

ولا يخفى سبيل الورع على من يحاوله، ثم للتورع درجات مأخوذة من غلبات الظنون، فمهما (٣) اقتضى ظاهر الشرع رفعَ الحظر، وغلب على الظن بسببٍ خفيٍّ محرِّمٌ، فلا حظر، ولكن الورع الاجتناب.

ثم ترتب الدرجات في الورع على حسب ترتب الظنون، وإلى هذا أشار الرسول


(١) في الأصل: أباها.
(٢) قصة حيلة أبي يوسف للرشيد في شأن الجارية، حكاها الخطيب البغدادي في تاريخه، وكذلك ابن خلكان، ولكن الأحناف لم يذكروها فيما رجعنا إليه من كتبهم، ولا في ترجمتهم لأبي يوسف، وكأن الأحناف ينكرونها ولا يصدقونها، بل يجعلون ذلك من الادعاء عليهم، وآية ذلك أن الكوثري أنكر هذه الحكاية، وعدها مكذوبة على أبي يوسف، ومن أشنع الفرى عليه (ر. تاريخ بغداد: ١٤/ ٢٥٠، ٢٥١، وفيات الأعيان: ٦/ ٣٨٤، تأنيب الخطيب: ٢٧٥، مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي: ص ٤٧ التعليق رقم (١) للكوثري).
(٣) فمهما: معناها: فإذا.