للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم وآتهم من مال الله الذي أتاك، ولا تكرههم على إمساك عن حق، ولا على خوض في باطل، فإنهم الذين مكنوا لك البلاد، واستخلصوا لك العباد ونوروا لك الظلمة، وكشفوا عنك الغمة، ومكنوا لك في الأرض، وعرفوك السياسة وقلدوك الرياسة، فنهضت بثقلها بعد ضعف، وقويت عليها بعد فشل، كل ذلك يرجوك من كان أمثالهم لعفتهم طمع الزيادة لهم، فلا تطع الخاصة تقرباً إليهم بظلم العامة، ولا تطع العامة تقرباً إليهم بظلم الخاصة لتستديم السلامة وكن لله كما تحب أن يكون لك أولياوك من العامة من السمع والطاعة، فإنه ما ولى أحد على عشرة من المسلمين فلم يحطهم بنصيحة إلا جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه، لا يفكها إلا عدله، وأنت أعرف بنفسك، قال: فبكى الرشيد ـ وقد كان في خلال هذه الموعظة يبكي لا يسمع له صوت ـ فلما بلغ إلى هذا الفصل بكى الرشيد وعلا نحيبه وبكى جلساؤه وبكى محمد وأبو يوسف. فقال الوالي: يا هذا الرجل احبس لسانك، عن أمير المؤمنين فقد قطعت قلبه حزناً وقال محمد بن الحسن وهو قائم على قدمه: اغمد لسانك يا شافعي عن أمير المؤمنين فإنه أمضى من سيفك ـ والرشيد يبكي لا يفيق ـ فأقبل الشافعي على محمد والجماعة فقال: اسكتوا أخرسكم الله لا تذهبوا بنور الحكمة يا معشر عبيد الرعاع وعبيد السوط والعصا، أخذ الله لأمير المؤمنين منكم لتلبيسكم الحق عليه، وهو يرثكم الملك لديه، أما والله ما زالت الخلافة بخير ما صرف عنها أمثالكم، ولن تزال بضر ما اعتصمت بكم، فرفع الرشيد رأسه وأشار إليهم أن كفوا، وأقبل علي بسيف فقال: خذ هذا الكهل إليك ولا تحلني منه. ثم اقبل على الشافعي فقال: قد أمرت لك بصلة، فرأيك في قبولها موقف. فقال له الشافعي: كلا، والله لا يراني الله تعالى قد سودت وجه موعظتي بقبول الجزاء عليها، ولقد عاهدت الله عهداً أني لا أخلط بملك من الملوك تكبر في نفسه وتصغر عند ربه، إلا ذكرت الله تعالى لعله أن يحدث له ذكراً. ثم نهض فلما خرج أقبل الرشيد على محمد ويعقوب فقال لهما: ما رأيت كاليوم قط، أفرأيتما كيومكما ? فلم نجد بداً من أن نقول: لا. فقال الرشيد لهما: أبهذا تغرياني؟ لقد بؤتما اليوم بإثم عظيم، لولا أن من الله علي بالتأييد في أمره، كيفما أوقعتماني فيما لا خلاص لي منه عند ربي. ثم وثب الرشيد وانصرف الناس.

<<  <  ج: ص:  >  >>