بعد أن قال جبريل عليه السلام ذلك, أمر الله تعالى بالجنة فحفّت بالمكاره, ثمّ قال لجبريل: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فرجع إليها, فإذا هي قد حفّت بالمكاره. فعلم بذلك أنّه لم يعد الطريق إليها سهلاً, بل هو طريق وعرٌ محفوف بالمتاعب والآلام والدموع والعرق والدم والتضحيات, وبذل كل ما في الوسع, ليس طريقًا مليئًا بالمتع والشهوات والنزوات, فمن أراد الجنة ونعيمها فليوطِّن نفسه لتحمل هذه المكاره التي حُفت بها الجنة ـ وهي الأمور التي تكرهها النفس لمشقتها ـ فلا يصل إلى الجنة أحدٌ إلا إذا تجرَّع من غصص هذه المكاره التي تحيط بها, ففي الحديث الشريف قد شبه حال التكاليف الشاقة على النفس ـ التي حُفت بها الجنة ـ والتي ينبغي على من يريد الجنة أن يؤديها ويقوم بها خير قيام كالصبر على المحن والبلايا والمصائب, والصبر على الطاعات التي تشق على النفس كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك, شبّه كل ذلك بحال أسوار ٍكثيفةٍ من الأشواك التي يكمن فيها كل حيوان ضارٍّ من الوحوش والحيات والعقارب, وهذه الأسوار الكثيفة الكريهة محيطة ببستان ٍعظيم ٍتلتف به من كل مكان بحيث لا يستطيع أن يصل أحدٌ إلى هذا البستان ولا يحظى بالتنعم بما فيه إلا بعد أن يتخطى هذه الأسوار البغيضة, ويتجشم المشاق التي تلحقه حين سلوكه فيها, ولا شك أن ذلك يحتاج إلى جهادٍ طويل شاق, وصبر ٍدائم, كذلك الجنة لا ينالها ويحظى بنعيمها الدائم إلا من تخطى شدائد دنياه, مجاهدًا نفسه, صابرًا على ما يصيبه, راضيًا بقضاء الله تعالى, قائمًا بتكاليف الإسلام خير قيام, مضحيًا بالنفس والمال في سبيل نيل مطلوبه, فالجنة هي الثمن الذي اشترى الله به نفوس المؤمنين وأموالهم, قال تعالى:(إنّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفُسَهمْ وأموالَهمْ بأنَّ لهمُ الجنّة َيُقاتِلون في سبيل ِاللهِ فيَقتُلونَ ويُقتَلونَ وعْدًا عليهِ حقًا في التوراةِ والإنجيل ِوالقرآن ِومَنْ أَوْفَى بعهدِهِ مِنَ اللهِ فاسْتَبشِرُوا بِبَيْعكمُ الذي بايَعْتُمْ به وذلك هو الفوزُ العظيمُ){التوبة:١١١} قال شمر بن عطية: ما من مسلم ٍإلا لله عزّ وجلّ في عنقه بيعة, وفَّّى بها أو مات عليها ثمّ تلا الآية السابقة (١).