فلما أفاق من غشيته، قالت له: يا ضيغم، قال لها لبيك يا أماه. قالت: أتحب الموت؟ قال: نعم. قالت: ولم يا بنيّ؟ قال لها: لأصير إلى من هو خير منك، وهو أرحم الراحمين، إلى من غذاني في ظلمة أحشائك، وأخرجني من أضيق المسالك، ولو شاء لأماتني عند الخروج من ضيق ذلك المسلك حتى تموتي أنت من شدة أوجاعك، لكنه برحمته ولطفه، سهّل ذلك عليّ وعليك. أما سمعتيه عز وجل يقول: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر ٤٩ـ٥٠] وجعل يبكي وينادي: أواه أواه، إن لم أنج غدًا من عذاب الله، ولم يزل يبكي حتى غشي عليه، وسقط على الأرض، فدنت منه أمه، فلمسته بيدها، فإذا هو ميّت رحمه الله.
فجعلت تبكي وتقول: يا ضيغماه، يا قتيلًا في حبّ مولاه. ولم تزل كذلك حتى صاحت صيحة عظيمة، ووقعت في الأرض، قال: فحرّكتها، فإذا هي قد ماتت. رحمة الله عليه وعليها، ورحمنا الله بهما.
[*] • أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن علي بن محمد بن إبراهيم الصفار، قال: حضرت أسود بن سالم ليلة وهو يقول هذين البيتين ويكررهما ويبكي:
أمامي موقف قدّام ربي ... يسألني وينكشف الغطا
وحسبي إن أمرّ على صراط ... كحد السيف أسفله لظى
قال: ثم صرخ صرخة، ولم يزل مُغْمَى عليه حتى أصبح رضي الله عنه.
[*] • أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن الضحّاك بن مزاحم أنه قال: خرجت ذات ليلة إلى مسجد الكوفة، فلما قربت من المسجد، فإذا في بعض رحابه شاب قد خرّ ساجدًا وهو يخور بالبكاء، فلم أشك أنه ولي من أولياء الله تعالى؟، فقربت منه لأسمع ما يقول فسمعته يقول أبياتًا:
عليك يا ذا الجلال معتمدي ... طوبى لمن كنت أنت مولاه
طوبى لمن بات خائفًا وجلًا ... يشكو إلى ذي الجلال بلواه
وما به علة ولا سقم ... أكثر من حبّه لمولاه
اذا خلا في ظلام الليل مبتهلًا ... أجابه الله ثم لبّاه
ومن ينل ذا من الإله فقد ... فاز بقرب تقرّ عيناه
فبقي يكرر هذه الأبيات ويبكي، وأنا أبكي رحمة لبكاءه، فبينما أنا كذلك، لاح لي ضوء كالبرق الخاطف، فأسرعت بيدي إلى عيني، فسمعت، فإذا بمناد ينادي من فوق رأسه بصوت عذب لذيذ لا يشبه كلام بني آدم، هو يقول:
لبيّك عبدي وأنت في منفي ... وكل ما قلت قد قبلناه
صوتك تشتاقه ملائكتي ... وحسبك الصوت قد سمعناه
إن هبت الريح من جوانبه ... خرّ صريعًا لما تغشاه
ذاك عبدي يجول في حجبي ... وذنبك اليوم قد غفرناه