(٣) طلب العلم: إن رأس مال الإنسان هو عمره، وإن أولى ما يصرف فيه المرء رأس ماله هو طلب العلم وتحصيله، فينبغي لمن وجد في نفسه الهمة للطلب ألا يضيع عمره في غير ذلك، وأن يستغله أحسن استغلال، وأن يكون ذا همة عالية في ذلك، والصبر عليه، مقتدياً في ذلك بجهابذة العلماء الذين بلغوا الذروة في علو الهمة في تحصيل العلم فقد كان السلف الصالح أكثر حرصاً على استثمار أوقاتهم في طلب العلم وتحصيله؛ وذلك لأنهم أدركوا أنهم في حاجة إليه أكبر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، و من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة أن ألقى في قلوب سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى الشغف بالعلم، والحرص على مجالسه، ليحفظوا به دينهم، وليكونوا أسوة لمن بعدهم، فمن ثمّ تبوءوا مناصب الإمامة في الدين. وقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يزدحمون على مجالس العلم ومن ذلك ما يلي:
[*] • قال جعفر بن درستويه: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، يعني أن من أراد أن يحجز مكاناً أو موضعاً في مكان الدرس ليوم الجمعة ـ مثلاً ـ فإنه يبقى في المسجد من عصر الخميس، ويظل مرابطاً في مكانه إلى اليوم التالي؛ لأن الدرس سيكون في اليوم الثاني بعد العصر؛ لأنه قبل ذلك لا يجد مكاناً، وهذا من شدة حرصهم وتزاحمهم على الحضور في مجالس العلم. يقول: كنا ندخل المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل مخافة أن لا نلحق من الغد موضعاً نسمع فيه. يقول جعفر بن درستويه: ورأيت شيخاً في المجلس يبول في طيلسانه ويدرج الطيلاسان حتى فرغ، مخافة أن يؤخذ مكانه إن قام للبول.
[*] • وقال يحيى بن حسان: كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محل شيخ ضعيف فانتهبوه. أي: من شدة حرصهم على طلب العلم، وهم شباب أقوياء وهو رجل ضعيف ظلوا يزيحونه حتى انتهبوا منه مكانه الذي يجلس فيه، ودقوا يد الشيخ، فجعل الشيخ يصيح.