وكان طبعاً الإمام سفيان بن عيينة يحدث، والمكان فسيح جداً، والزحام شديد للغاية، فجعل هذا الشيخ يصيح، ويقول لسفيان: لا جعلتك مما عملوا بي في حل. يعني: أنا لا أسامحك ـ يا سفيان ـ مما عملوا بي؛ لأنه حصل بسبب حرصهم على هذا الدرس، فأنت المسئول عن أن تنصفني من الظلم الذي وقع عليَّ. فجعل هذا الشيخ ـ ليلفت نظر سفيان بن عيينه إليه ـ يقول لسفيان: لا جعلتك مما عملوا بي في حل. وذلك ليلفت نظر سفيان بن عيينة إليه وتبلغه ظلامته، وكان سفيان لا يسمع، حتى نظر سفيان بن عيينة إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا، فقال له: ما يقول الشيخ؟ فقال: يقول: زدنا في السماع. وأظن أنه حصل في الرواية نوع من التأليف؛ لأنه ليس من اللائق بطالب العلم أن يكذب، ولا يمكن لطالب علم ـ وخاصة طالب علم الحديث ـ أن يكذب، فالله تعالى أعلم، وكأنه عرَّض على الإمام سفيان، أي: لما قال له: ما يقول الشيخ؟ قال له: زدنا في السماع. ففهم ابن عيينة أن هذه مقولة الشيخ الضعيف؛ ولم يكذب هذا الذي رد عليه، وإنما قال له: زدنا في السماع. ففهم ابن عيينة أنه يبلغه مقولة الشيخ، وهو في الحقيقة لا يبلغه مقولة الشيخ، وإنما يعرَّض بجوابه بأن قال له: زدنا في السماع. والله تعالى أعلم. وكان سبب موت الإمام هشيم رحمه الله تعالى ازدحام طلبة العلم عليه، كما قال الخطابي: ازدحم أصحاب الحديث على هشيم فطرحوه عن حماره، فكان هذا سبب موته. وكان أبو بكر بن الخياط النحوي رحمه الله تعالى يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة؛ لأنه كان وهو يمشي في الطريق يستذكر الكتب.
{تنبيه}:• من مظاهر اغتنام السلف الصالح رحمهم الله تعالى لفرصة عمرهم في طلب العلم مبادرتهم الأزمان حرصاً على العلم، والحقيقة أن الإنسان قد يستحيي في مثل هذه المواضع من الناس، وهذا لا يسمى حياءً، بل هذا عجز مذموم؛ لأن هناك فرقاً بين العجز والحياء، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الذي لا يأتي إلا بخير مصداقاً لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الآتي:
(حديث عمران ابن حصين في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحياءُ لا يأتي إلا بخير.