للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ناس من المؤمنين قبل أن يُفْرَضَ عليهم الجهاد يقولون: لَوَددْنَا أن الله عز وجل دَلَّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}، وهذا اختيار ابن جرير، وقد قيل إنها نزلت في قوم يقولون: قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك (١).

وعلى كل حال فالمقصود أني لا أوجه هذا الموضوع ولا أقصد به قومًا يكذبون فيقولون شيئًا يخبرون به عن أنفسهم لم يفعلوه، ولا أقصد رجلاً يقول الباطل، ولكن أكتب هذا الكلام لرجل إن لم يقل الحق لم يقل الباطل، فالكلام إذن لقوم ليس عندهم نفاق أو كذب أو انتهاك للحرمات بينما هم أصحاب ألسنة عليمة فصيحة، فهؤلاء أمرهم في غاية الشناعة، والكلام فيهم معلوم مكرور.

ولكني أعالج ظاهرة لا تبدو فيها هذه الشناعة، أو ذلك التناقض الصارخ بين العلم والعمل، وإنما يكون فيها الجانب العملي ضعيفًا إزاء الجانب العلمي دون أن يكون الشخص فاعلاً للشرور أو منهمكًا في المعاصي والآثام. وهذا سبب غموض المشكلة وإهمالها، وهو أن الشخص مع وجود خلل ما في شخصيته وتفكيره وتأثيره لا يشعر بذلك؛ لأنه ليس ثمة انحراف ظاهر في سلوكه أو عبادته، وإنما النقص في عدم مواكبة أحواله القلبية وجهوده العملية لقوته العلمية، فالقوة العلمية جيدة لكن القلب قاس والعبادة سريعة خفيفة، والورع معدوم، والغيرة على الدين ضعيفة، والبذل والتضحية والتنازل عن بعض الحقوق أو المصالح الشخصية من أجل الدعوة لا موضع لها في الواقع، والحياة للدعوة مفقودة، والحرص على هداية الآخرين غير موجود، والزهد في الدنيا لا مكان له، فصار الحال كما يصوره الشاعر:

وكلهم في لهيب القول عنترة

وكلهم في لهيب الفعل كالوتد


(١) انظر: تفسير ابن كثير، سورة الصف.

<<  <  ج: ص:  >  >>