للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد قصدت سوق كلام ابن القيم رحمه الله في تفاوت العباد في القوة العلمية والقوة العملية إلى طائفة الملتزمين بالدين في مجتمعنا أو المنسوبين إلى العلم أو الفكر أو الدعوة؛ أولئك الذين نحسن فيهم الظن ويُرجى منهم الخير، ومع ذلك فقد يقع فيهم قدر من الخلل في هاتين القوتين دون أن يصل الأمر إلى التناقض المطلق بين القوة العلمية والقوة العملية أو تنعدم إحداهما بالكلية، فهذه الدرجة الشنيعة يشبه أصحابها المنافقين الذين ظاهرهم في واد وحقيقتهم في واد آخر، أو المغضوب عليهم الذين علموا الحق وعملوا بغيره أو الضالين الذين عبدوا الله على جهل، وهذا كله له تعلق بمسألة التفاوت بين القوة العلمية والقوة العملية وأثره على واقع العبد ومصيره، وكذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢، ٣].

فهاتان الآيتان لهما أيضًا تعلق بموضوعنا، فالذي يقول ما لا يفعل أنواع كثيرة منها: من يعمل عملاً معاكسًا لقوله، ومنها المتشبع بما لم يعط، ومن يوهم الآخرين بأنه في وضع معين من العمل أو الاستعداد للبذل والتضحية فإذا احتيج منه إلى ذلك لم يكن فعله كقوله، ومنها أن يقول قولاً أو يَعِدَ وعدًا ولا يفي به، وقد قيل إن الآيتين نزلتا في هذا وأن الذم الوارد فيهما يشبه الذم في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "آية المنافق ثلاث" فذكر منها: "وإذا وعد أخلف" (١).

وذهب الجمهور إلى أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فُرِضَ نكل عنه بعضهم؛ فهي نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: ٧٧، ٧٨].


(١) رواه البخاري، ومسلم، جامع الأصول (١١/ ٥٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>