للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيقول رحمه الله: "من الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل (١)، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم (٢)، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله ...

ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم.

ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته.

فإذا كان السير ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء" (٣).

لمن أسوق كلام ابن القيم؟


(١) وهذا يذكرني بحال من يتحدث عن موقف المسلم عند الغضب أو في الفتن فإذا كانت فتنة وقع فيها ولم يعمل بما يقول، أو بحال المرء حين يكون عالمًا بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا ما كان موطن الأمر والنهي لم تنشط نفسه لذلك، وإذا بمن هو أقل منه علمًا يتولى ذلك وينشط له، وقُلْ مثل ذلك فيمن يَعْلَمُ ما ينبغي فعله بالميت ساعة الاحتضار وفي تغسيله وتكفينه ودفنه، فإذا حضر ميتًا صار كمن لا علم له بذلك، فهو فقيه ما لم يحضر العمل!!
(٢) وهي كلمة مخيفة، ولفتة عظيمة تجعل كل مشتغل بالعلم يخشى على نفسه من ذلك الضعف وتلك الآفة.
(٣) طريق الهجرتين ص١٧٢، ١٧٣، ببعض الاختصار.

<<  <  ج: ص:  >  >>