وهذا الذي ذكره: هو موجب اليقطة وأثرها فإنه إذا نهض من ورطة الغفلة لاستنارة قلبه برؤية نور التنبيه أوجب له ملاحظة نعم الله الباطنة والظاهرة وكلما حدق قلبه وطرفه فيها شاهد عظمتها وكثرتها فيئس من عدها والوقوف على حدها وفرغ قلبه لمشاهدة منة الله عليه بها من غير استحقاق ولا استجلاب لها بثمن فتيقن حينئذ تقصيره في واجبها وهو القيام بشكرها.
(فأوجب له شهود تلك المنة والتقصير نوعين جليلين من العبودية: محبة المنعم واللهج بذكره وتذكر الله وخضوعه له وإزراءه على نفسه حيث عجز عن شكر نعمه فصار متحققاً ب"أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" وعلم حينئذ أن هذا الاستغفار حقيقٌ بأن يكون سيد الاستغفار وعلم حينئذ أن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم وعلم أن العبد دائما سائر إلى الله «بين مطالعة المنة ومشاهدة التقصير».
قال:"الثاني مطالعة الجناية والوقوف على الخطر فيها والتشمير لتداركها والتخلص من رقها وطلب النجاة بتمحيصها".
فينظر إلى ما سلف منه من الإساءة ويعلم أنه على خطر عظيم فيها وأنه مشرف على الهلاك بمؤاخذة صاحب الحق بموجب حقه وقد ذم الله تعالى في كتابه من نسي ما تقدم يداه فقال:(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)[الكهف:٥٧]
فإذا طالع جنايته شمر لاستدراك الفارط بالعلم والعمل وتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم وطلب التمحيص وهو تخليص إيمانه ومعرفته من خبث الجناية كتمحيص الذهب والفضة وهو تخليصهما من خبثهما ولا يمكن دخوله الجنة إلا بعد هذا التمحيص فإنها طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا تقول لهم الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزمر: ٧٣]
وقال تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ)[النحل: ٣٢] فليس في الجنة ذرة خبث.