للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والاطلاع على عيب النفس ونقائصها ومثالبها يلجمها عن الغي والضلال، ومعرفة العبد نفسه وأن مآله إلى القبر يورثه تذللاً وعبودية لله، فلا يُعجب بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنباً مهما صغر، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يتفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً) [أخرجه عبد الرزاق في المصنف:١١/ ٢٥٥، وابن أبي شيبة في المصنف:٧/ ١١٠)، والطبري في تفسيره:١/ ٢٥٨، وأبو نعيم في الحلية:١/ ٢١١]

يُحكى أن رجلاً كان يحاسب نفسه، فحسب يوماً سني عمره، فوجدها ستين سنة. فحسب أيامها، فوجدها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم.

فصرخ صرخة، و خرّ مغشياً عليه. فلما أفاق قال: يا ويلتاه، أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟!

يقول هذا لو كان يقترف ذنباً واحداً في كل يوم، فكيف بذنوب كثيرة لا تحصي؟

ثم قال: آه عليّ، عمرت دنياي، وخربت أخراي، وعصيت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب. وأنشد:

منازل دنياك شيّدتها ... وخرّبت دارك في الآخرة

فأصبحت تكرهها للخراب ... وترغب في دارك العامرة

(أخي الحبيب: إذا جالست الناس فكن واعظاً لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك، ومن صحح باطنه في المراقبة والإخلاص زين الله ظاهره في المجاهدة والفلاح. والتعرف على حق الله وعظيم فضله ومنه وتذكر كثرة نعمه وآلائه يطأطىء الرأس للجبار جل وعلا، ويدرك المرء معه تقصيره على شكر النعم، وأنه لا نجاة إلا الرجوع إليه، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر.

وإن أضرَّ ما على المكلف إهمال النفس وترك محاسبتها والاسترسال خلف شهواتها حتى تهلك، وهذا حال أهل الغرور الذين يغمضون عيونهم عن المعاصي ويتكلون على العفو، وإذا فعلوا ذلك سهُلت عليهم مواقعة الذنوب والأنس بها والله يقول: يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ [الانفطار:٦]، يقول الحسن البصري رحمه الله: (لا يليق بالمؤمن إلا أن يعاتب نفسه فيقول لها: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ وأما الفاجر فيمضي قدماً لا يعاقب نفسه) [أخرجه أحمد في الزهد:٢٨١، وعزاه في الدر المنثور:٨/ ٣٤٣ إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس].

<<  <  ج: ص:  >  >>