الأثر الثاني: أن الإخبات يقوي في المسلم الإرادة، بحيث تستدرك هذه الإرادة القوية ما عنده من غفلة. وذلك أن الإرادة عند أهل الطريق اسم لأول منازل القاصدين إلى الله تعالى. والمريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه، وأخذ في السفر إلى الله تعالى والدار الآخرة، فإذا نَزَل في منزلة الإخبات، أحاطت إرادته القوية بما عنده من غفلة، فاستدركها المسلم وانتبه وأخذ حذره قبل أن توقعه غفلته في المحذور.
الأثر الثالث: أن الإخبات يربي المسلم على المحبة الصادقة، التي تجعله يقهر كل ما عداها من مغريات الحياة ومسلياتها، بحيث تهوي السلوة، التي تشغله عن محبوبه وتسقط كالذي يهوي في بئر. وهذا القهر للسلوة هو علامة المحبة الصادقة، أن تقهر فيه وارد السلوة، وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدًا، وحاصل هذه الدروس والآثار ثلاثة: أن «عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبته تقهر سلوته»
الأثر الرابع: أن الإخبات يجعل المسلم ذا عزيمة قوية، بحيث لا يوحش قلبَه عارض، ولا يقطع عليه الطريقَ فتنة. والعارض هو الشيء المخالف، الذي يعترضك في طريقك، أي يكون لك في عُرض الطريق، فيمنعك من مواصلة سيرك. وأقوى هذه العوارض، التي تعترض طريق المسلم، عارض وَحشةِ التفرد، أي أن يشعر المسلم بأنه وحده في الطريق، فيستوحش الطريق، ويطول عليه، فيقطع عليه هذا الفكر طريقه، ويجعله يعود من حيث جاء.
أما الإخبات، فإنه يجعله ذا عزيمة قوية، فلا يؤثر عليه عارض الوحشة والتفرد، حيث إنه يشعر بأنه ليس وحده في الطريق، بل الملائكة من حوله على نفس الدرب القويم، الذي يسلكه، لذلك فإن المسلم لا يلتفت إلى تلك العوارض، كما يقول بعض الصالحين الصادقين: انفرادك في طريق طلبك، دليل على صدق الطلب. وقال آخر:«لا تستوحش في طريقك من قلة السالكين، ولا تغتر بكثرة الهالكين».
أما الفتنة التي تقطع عليه الطريق، فهي الواردات، التي تَرِد على القلوب تمنعها من مطالعة الحق وقصده، كحب الدنيا والتعلق بها، أو عدم الإخلاص، وتلوث القلب بالحسد والحقد ... إلخ.
فإذا تمكن المسلم من منزل الإخبات، وصحة الإرادة والطلب، لم يطمع فيه عارض الفتنة. وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرقت على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات، وتجلت عليه معانيها.