للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قدم على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تَزِنُ لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين , فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلمَّ أزِنْ لك , قال: لا , قالت: لِمَ؟ قال: - إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه – وتمسحي به عنقك, فأصيب فضلا على المسلمين (١).

(فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه واحتياطه البالغ لأمر دينه , فقد أبى على امرأته أن تتولى قسمة ذلك الطيب حتى لا تمسح عنقها منه فيكون قد أصاب شيئًا من مال المسلمين, وهذه الدِّقة المتناهية في ملاحظة الاحتمالات التي قد توقع في المحرمات أو الشبهات نورٌ يهبه الله تعالى لأوليائه السابقين إلى الخيرات , وفرقان يفرقون به بين الحلال والحرام والحق والباطل, بينما تفوت هذه الملاحظات على الذين لم يشغلوا تفكيرهم بحماية أنفسهم من المخالفات.

(ومن ذلك ما أخرجه المؤرخ أبو زيد عمر بن شبة من خبر عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر رضي الله عنه , فكانت له ناقة يحلبها , فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره, فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها, فحلبت لك ناقة من مال الله , فقال: ويحك تسقيني نارًا , واستحل ذلك اللبن من بعض الناس , فقيل هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها (٢).

(فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه , حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك , ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر , وهذا الخبر وأمثاله يدل على أن ذكر الآخرة بما فيها من حساب ونعيم أو شقاء قد أخذ بمجامع قلب عمر وملأ عليه تفكيره, حتى أصبح ذلك موجها لسلوكه في هذه الحياة.

(وعن نافع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ قال: إنما هاجر به أبواه لأنه كان صغيراً، ليس هو كمن هاجر بنفسه. [رواه البخاري].


(١) الزهد /١١٩.
(٢) تاريخ المدينة المنورة /٧٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>