(الرابعة: الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال والناس في الجود به على مراتب متفاوتة وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ: أن لا ينفع به بخيلا أبدا ومن الجود به: أن تبذله لمن يسألك عنه بل تطرحه عليه طرحا ومن الجود بالعلم: أن السائل إذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها جوابا شافيا لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا نعم أو لا مقتصرا عليها ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في ذلك أمرا عجيبا: كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر ومأخذ الخلاف وترجيح القول الراجح وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم: أعظم من فرحه بمسألته وهذه فتاويه رحمه الله بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها بحيث يشفيه ويكفيه وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المتوضىء بماء البحر فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا جف قالوا: نعم قال: فلا إذن ولم يكن يخفى عليه نقصان الرطب بجفافه ولكن نبههم على علة الحكم وهذا كثير جدا في أجوبته مثل قوله: إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق وفي لفظ: أرأيت إن منع الله الثمرة: بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن وهي منع الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع وكان خصومه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية يعيبونه بذلك ويقولون:
سأله السائل عن طريق مصر مثلا فيذكر له معها طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ولعمر الله ليس ذلك بعيب وإنما العيب: الجهل والكبر وهذا موضع المثل المشهور:
لقبوه بحامض وهو خل مثل من لم يصل إلى العنقود
(الخامسة: الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته.