فوقفت وقلبها يتفطر ودمعها يتقاطر، وهو ينظر إليها نظر الغريق إلى من ظن أنه سينقذه، فلما رآها لا تتحرك، يئس منها، كما يئس من أبيه من قبل، وجعل ينادي أخاه [إِدغار] بصوت يختلط فيه النداء بالبكاء والعويل: إِدغار إِدغار، أين أنت يا إِدغار؟ أسرع فساعدني، إنهم يريدون أن يقطعوا رجلي، إدغار إدغار، وسمع أخوه إدغار ـ وهو أكبر منه بقليل ـ صراخه، فأقبل مسرعًا، فشد قامته ونفخ صدره، ووقف دون أخيه متنمِّرًا مستأسدًا، وفي عينيه بريق من عزيمة لا تُقهر، وأعلن أنه لن يدع أحدًا يقترب منه، وكلمه أبوه، ونصحته أمه، وهو يزداد حماسة، وأخوه يختبئ وراءه ويتمسك به، فيشدّ ذلك من عزمه، وحاول أبوه أن يزيحه بالقوّة، فهجم على أبيه وعلى الطبيب الذي جاء يساعده، واستأسد واستيأس، والإنسان إذا استيأس صنع الأعاجيب. ألا ترون الدجاجة إذا هجم أحد على فراخها كيف تنفش ريشها وتقوم دون فراخه؟ والقطة إذا ضويقت كيف تكشِّر عن أنيابها وتبدي مخالبها؟ إن الدجاجة تتحول صقرًا جارحًا، والقطة تغدو ذئبًا كاسرًا، و [إدغار] صار رجلا قويًا، وحارسًا ثابتًا، يتزحزح الجدار ولا يتزحزح عن مكانه. وتركوه آملين أن يملَّ أو يكلَّ، فيبعد عن أخيه ولكنه لم يتزحزح، وبقي يومين كاملين واقفًا على باب غرفة أخيه يحرسه، لم يأكل في اليومين إلا لقيمات، قربوها إليه، ولم ينم إلا لحظات، والطبيب يجئ ويروح، ورجل الولد تزداد زرقة وورمًا، فلما رأى الطبيب ذلك نفض يده وأعلن أنها لم تبق فائدة من العملية الجراحية وأن الولد سيموت وانصرف، ووقفوا جميعًا أمام الخطر المحدق.
ماذا يصنع الناس في ساعة الخطر؟!
إن كل إنسان مؤمنًا كان أو كافرًا يعود ساعة الخطر إلى الله؛ لأن الإيمان مستقر في كل نفس حتى في نفوس الكفار، ولذلك قيل له:[كافر]، والكافر في لغة العرب [الساتر] ذلك أنه يستر إيمانه ويغطيه، بل يظن هو نفسه أن الإيمان قد فقد من نفسه، فإذا هزّته الأحداث ألقت عن غطاءه فظهر. قريش التي كانت تعبد هُبل واللات والعزى، إنما كانت تعبدها ساعة الأمن، تعبدها هزلا منها، فإذا جدَّ الجدُّ، وركب القرشيون السفينة، وهاج البحر من حولها بموج كالجبال، وصارت سفينتهم بيد الموج كريشة في كفّ الرياح، وظهر الخطر، وعمّ الخوف، بدأ الإيمان الكامن في أعماق النفس، فلم تُدْعَ اللات والعزى ولا هاتيك