فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإِلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإِله الحق، وصار من أَغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:
غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإِن الغنى العالي عن الشيء لا به
فياله من غنى ما أَعظم خطره وأَجل قدره، تضاءَلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إِليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم.
(الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالحق تبارك وتعالى:
«الفوز بوجوده» وهذا الغنى أعلى درجات الغنى، لأَن الغنى الأَول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه إليه، ففاض على القلب من صدق التوجه أَنوار الصفات المقدسة، واستغنى القلب بذلك وحصل أَيضاً أَنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أَيضاً. وأَما هذا الغنى الثالث ـ الذي هو الغنى بالحق ـ فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إِنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إِلى آثار وجود الذات، وإِنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد، فهذا أَوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفاني وتشرق شمس الوجود الباقي فينقطع لها كل ضباب، وهذا عبارة عن نور يقذف في القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذي قبله عن عظمة الصفات، فإِذا كان أَثر من آثار صفات الذات أَو صفات الأَفعال يغنى القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأَرواح من أَنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضي ومن غنى يدوم ومن عيش أَلذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إِلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإِنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أَن يبيعها بالدون.