ثم التفت عمر إلى حفصة ابنته، أم المؤمنين، فقال لها: ألم تحدثيني يا حفصة أنك ثنيت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عباءته ذات ليلة لينام عليها؟ فوجد لينها فنام ولم يستيقظ إلا بأذان بلال. فقال لك يا حفصة ماذا صنعت أثنيت العباءة والمهاد ليلتي هذه، حتى ذهب بي النوم إلى الصباح؟ مالي وللدنيا، وكيف شغلتموني بلين العباءة عن مناجاة ربي؟ يا حفصة أما تعلمين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وكان يمضي جائعاً، ويرقد لله ذاكراً، ولم يزل لله راكعاً وساجداً وباكياً ومتضرعاً، آناء الليل وأطراف النهار، إلى أن قبضه الله إلى رحمته ورضوانه؟ فلا أكل عمر طيباً، ولا لبس ليناً، إنما مثلي ومثل صاحبيَّ قبلي كثلاثة نفر سلكوا طريقاً، فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ، ثم أتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى ووصل إليه، ثم أتبعهما الثالث، فإن سلك طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يصل إليهما ولم يجتمع بهما.
فلما سمعت حفصة وعائشة من عمر ما سمعتا، رجعتا إلى الصحابة وأخبرتهم بما سمعتا، ولم يزل عمر على تلك الحال حتى لقي ربه.
ومن الصور المشرقة لزهد عمر - رضي الله عنه - ما أخرج ابن عبد الحكم عن أبي صالح الغِفاري قال: كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إنا قد خَططْنا لك داراً عند المسجد الجامع. فكتب إليه عمر: إنَّى لرجل من الحجاز تكون له دار بمصر، وأمره أن يجعلها سوقاً للمسلمين. كذا في الكنز.
من الصور المشرقة لزهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه رغبة بعض الصحابة بزيادة رزق عمر ورفضه ذلك:
وأخرج الطبري عن سالم بن عبد الله قال: لما ولي عمر رضي الله عنه قعد على رزق أبي بكر رضي الله عنه الذي كانوا فرضوا له، فكان بذلك فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين منهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم. فقال الزبير؛ لو قلنا لعمر في زيادة نزيدها إياه في رزقه، فقال علي؛ وددنا قَبل ذلك، فانطلقوا بنا، فقال عثمان: إنّه عمر فهلُّموا فلنستبرىء ما عنده من وراء، نأتي حفصة فنسأله ونستكتمها. فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر ولا تسمِّي له أحداً إلا أن يقبل، وخرجوا من عندها.