ثم إنَّ عمر قام منصرفاً فمشى وراءه أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أثره، فقالوا: ما ترون يا معشر المهاجرين والأنصار إلى زهد هذا الرجل وإلى حِلْيته؟ لقد تقاصرت إِلينا أنفسنا مذ فتح الله على يديه ديار كسرى وقيصر، وطرفي المشرق والمغرب، ووفود العرب والعجم يأتونه فيَرون عليه هذه الجبَّة وقد رقعها إثنتي عشرة رقعة، فلو سأَلتم معاشر أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأنتم الكبراء من أهل المواقف والمشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسابقين من المهاجرين والأنصار ـ يغير هذه الجبة بثوب ليِّن يُهاب فيه منظره، ويُغدَى عليه بجفنة من الطعام، ويُراح عليه بجفنة يأكله ومن حضره من المهاجرين والأنصار. فقال القوم بأجمعهم: ليس لهذا القول إلا علي بن أبي طالب فإنه أجرأ الناس عليه وصهره على إبنته، أو إبنته حفصة فإنها زوجة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مُوجب لها لموضعها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلموا علياً، فقال عليٌّ: لست بفاعل ذلك، ولكن عليكم بأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهن أمهات المؤمنين يجترئن عليه.
قال الأحنف بن قيس: فسألوا عائشة وحفصة رضي الله عنهما وكانتا مجتمعتين. فقالت عائشة: إني سائلة أمير المؤمنين ذلك، وقالت حفصة: ما أراه يفعل وسيبِينُ لك ذلك. فدخلتا على أمير المؤمنين فقرَّبهما وأدناهما، فقالت عائشة: يا أمير المؤمنين، أتأذن أكلمك؟ قال: تكلَّمي يا أمَّ المؤمنين. قالت: إنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضى لسبيله إلى جنته ورضوانه لم يُرد الدنيا ولم تُرده، وكذلك مضى أبو بكر رضي الله عنه على إثره لسبيله بعد إحياء سنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَتَل المكذبين، وأدحض حجة المبطلين بعد عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وإِرضاء رب البرية، فقبضه الله إلى رحمته ورضوانه وألحقه بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرفيع الأعلى لم يرد الدنيا ولم ترده. وقد فتح الله على يديك كنز كسرى وقيصر وديارهما، وحُمل إليك أموالهما ودانت لك أطراف المشرق والمغرب ونرجو من الله المزيد وفي الإِسلام التأييد، ورسل العجم يأتونك ووفود العرب يردون عليك وعليك هذه الجبة قد رقعتها إثنتي عشرة رقعة فلو غيَّرتها بثوب لين يُهاب فيه منظرك، ويُغدى عليك بجفنة من الطعام ويُراح عليك بجفنة تأكل أنت ومن حضرك من المهاجرين والأنصار.