للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الحديث انقسم أهل العلم في فهمه إلى ثلاثة فرق، الأولى: ذهبت إلى أن هذا الحديث دليل على كراهة القيام على العظماء كما يُفعل عند عظماء فارس والروم، والحقوا هذا الحديث بحديث مسلم في كراهة القيام على رأس الجالس كما تفعله الأعاجم بعظمائها.

والفرقة الثانية: استدلت به على كراهة القيام للقادم، وذهبت إلى أن النص صريحٌ في ذلك، فمعاوية -رضي الله عنه- أورد هذا الحديث عندما قام ابن عامر لرؤيته، فإيراده لهذا الحديث عند هذا الحدث قرينةٌ قوية تبين المراد من الحديث. ثم إن عدم إنكار ابن الزبير على معاوية-رضي الله عنهما- دليل على استقرار ذلك عنده أيضاً.

وردت هذه الفرقة على من حمل حديث معاوية، بأنه قيام على رأس الجالس، بأوجه منها:

[الوجه الأول:] إن العرب لم يكونوا يعرفون هذا-أي القيام على رأس الجالس-، وإنما هو من فعل فارس والروم.

[الوجه الثاني:] ولأن هذا لا يقال له: قيام للرجل، إنما هو قيام عليه. ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه: المشبه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة عند العرب، قاله ابن القيم (١).

والفرقة الثالثة: فصَّلت في ذلك فقالت: إن كان القيام على وجه التعظيم فمكروه، وإن كان على وجه الإكرام فلا يكره، قاله الغزالي، وحسن قوله ابن حجر (٢).

وجماع هذا الأمر أوجزه ابن تيمية -رحمه الله- فقال: لم تكن عادة السلف على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه الراشدين: أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك (٣).ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قام لعكرمة، وقال للإنصار لما قدم سعد بن معاذ، (قوموا إلى سيدكم) (٤). وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه.


(١). شرح ابن قيم على سنن أبي داود (عون المعبود ١٤/ ٩٥) ط. دار الكتب العلمية.
(٢). فتح الباري (١١/ ٥٦)
(٣). أخرجه البخاري في الأدب المفرد (٩٤٦)، مع اختلاف يسير في الألفاظ. وقال الألباني: صحيح.
(٤). رواه البخاري (٦٢٦٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>