للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة فجعلت أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها فقالت لي: يا هذا ما شأنك قلت: وما عليك من النظر فأنشأت تقول:

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر

نظر رجل إلى امرأة عفيفة فقالت: يا هذا غض بصرك عما ليس لك تنفتح بصيرتك فترى ما هو لك. نفح الطيب للتلمساني ٥/ ٣١٤

والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية فإن لم تقتله جرحته وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:

كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين الغير موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه.

ولله درُ من قال:

يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا ... أنت القتيل بما ترمي فلا تصب

وباعث الطرف يرتاد الشفاء له ... توقه إنه يأتيك بالعطب

ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، كما قال بعض السلف: "النظر سهام سم إلى القلب"؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}. وحفظُ الفَرج تارةً يكون بمنعه من الزنى، كما قال {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:٢٩، ٣٠] أهـ.

ذم فضول النظر:

(حديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم) قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.

(حديث بُريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي يا علي لا تتبع النظرةَ النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة.

وكذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم بغضها وحسم المادة من أولها سهل علاجه وإن كرر النظر نقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرغ فنقشها فيه فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة فلا تزال تنمي فيفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به ويخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات ويلقى في التلف.

<<  <  ج: ص:  >  >>