ومن يتشرف بحمل العقيدة فهو ولي الله وحبيبه، بلال من أساتذة الإسلام، وصهيب وعمار وسلمان وأنسابهم ليسوا من العرب القح، فأين أبو جهل؟ وأين الوليد بن المغيرة؟ وأين حاتم الطائي؟ وأين عنترة بن شداد؟ لا شيء قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:١٧].،دخل بلاد الإسلام واعتنق هذا الدين وشرف به، وكان يعمل حارساً على بستان، يحرس الرمان والتفاح والليمون أن يعتدي عليه سراق أو لصوص بأجرة بسيطة، فكان يبدأ من الصباح في عمله، وكان يتخلل عمله بركعات يركعها في البستان، ولا يفتر لسانه من ذكر الله عز وجل، فإذا استلم راتبه من سيده تصدق بثلث الراتب، وأنفق عليه وعلى أهله ثلثه وخزن ثلثه، لما سوف يعرض له.
كان أبوه أجيرًا بسيطًا يعمل حارسًا لبستان أحد الأثرياء، غير أن والده هذا كان سبب رخائه أورثه المال رذاذًًا، ثم صار على يده وابلاً ثجاجًا.
تأمل لهذا المال الذي وصف بأنه رذاذ ليعلم أنه سبب الخير كله، فقد اكتسبه "والده المبارك" بجد وجهدٍ وكفاح وصبر، فكان ثمرة يانعة مقنعة لرجل ورع، حريص على أداء حق العمل، فلم يرض إلا أن يشغل كل وقته في العمل تحريًا للأجر الحلال، فلم يتطلع يومًا للأكل من البستان، وهو ما يكتشفه صاحب البستان ويتعجب له.
دخل سيده ومعه ضيف يزور البستان، قال: يا مبارك! ائتنا برمان، فأتى برمان حامض، ووضعه بين يديه، قال: هذا حامض، ائتنا بغيره، فأتى برمان حامض، قال: أنت لا تفهم ولا تعي؟ هذا حامض، قال: والله لا أعرف الحامض من الحلو، قال: أما ذقته وأنت في البستان من كذا وكذا سنة؟ قال مبارك: أنت لم تأذن لي أن أذوق ما في البستان.
أي ورع هذا! أي صفاء عقدي! أي عبادة! أي مراقبة لله! فأنجب هذا المبارك -وهو مبارك على اسمه- عبد الله بن المبارك، وترعرع شاباً فصيحاً ذكياً، لكن يقال: إذا واجهته عرفت أنه ليس بعربي، تعرف أنه مروزي وعجمي من شكله. كان فصيحاً ينظم الشعر البليغ، وهو من أكبر الشعراء، وسوف تسمعون هذه الليلة أبياته التي تهز أنياط القلوب وهو يحرك بها الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها.