الثالث: أنَّ إعلال رواية مالك عن أبي النضر، بما رواه محمد بن إسحاق عن أبي النضر، فيه نظر، لما هو معروف من علو مالك في الدقة والضبط والإتقان على ابن إسحاق، وليس عندنا ممن رواه غيرهما.
مما يتقدم يتبين صحة حديث مالك هذا، كما قال الإمام الترمذي، واللَّه أعلم بالصواب.
وذكر المؤلف حديث مالك، عن يزيدَ بنِ عبدِ اللَّه بنِ الهادِ، عن محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ التَّيميِّ، عن أبي سَلَمة بنِ عبدِ الرحمن، عن أبي هريرة أنه قال: خرَجْتُ إلى الطُّورِ فلَقِيتُ كعبَ الأحبار، فجَلَسْتُ معه فحدَّثَني عن التّوراة. . . الحديث، وفيه: قال أبو هريرة: فلَقيتُ بَصْرَةَ بنَ أبي بَصْرَةَ الغِفارِيَّ فقال: من أينَ أقبلْتَ؟ فقلت: من الطُّور. . . إلى آخره. (١٤/ ٤٠٠).
ثم قال: لا أعلمُ أحدًا ساقَ هذا الحديثَ أحسنَ سِياقةً من مالكٍ عن يزيدَ بن الهادِ، ولا أتمَّ معنًى منه فيه، إلّا أنه قال فيه:"بَصْرَةَ بنَ أبي بَصْرَةَ" ولم يُتابعْهُ أحدٌ عليه، وإنّما الحديثُ معروفٌ لأبي هريرة:"فلَقِيتُ أبا بَصْرَةَ الغِفاريَّ"، كذلك رواه يحيى بنُ أبي كثيرٍ عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، وكذلك رواه سعيدُ بنُ المسيِّبِ وسعيدٌ المقبُريُّ عن أبي هريرة -كلُّهم يقولُ فيه:"فلَقِيتُ أبا بَصْرَةَ الغِفاريَّ" لم يقُلْ واحدٌ منهم: "فلَقِيتُ بَصْرَةَ بنَ أبي بَصْرَةَ" كما في حديث مالكٍ عن يزيدَ بنِ الهادِ، وأظُنُّ الوهمَ فيه جاء مِنْ قِبَل مالك، أو من قِبَلِ يزيدَ بنِ الهادِ، واللَّهُ أعلم. (١٤/ ٤٠١ - ٤٠٢).
قلنا معقبِّين: ومثل هذا قال في الاستيعاب ١/ ١٨٤ (٢١٧)، ومما قاله هناك:"فإنّ هذا الحديث لا يوجد هكذا إلّا في الموطأ لبَصْرة بن أبي بَصْرة، وإنما الحديث لأبي هريرة: فلقيت أبا بصرة؛ يعني أباه"، وكلامه هذا احتمل خطأين: الأول: ذِكْرُه أنّ قوله: "بصرة بن أبي بصرة، لم يقع إلّا في الموطأ"، والثاني: يتعلق بنسبة الوهم فيه إلى مالك.
وأما الأول فهو مردودٌ بما تعقّبه به ابن الأثير في أسد الغابة ١/ ٢٣٧ بعد أن ساق طرفًا من الحديث، وذكر بإثره كلام المصنِّف، فقال: "قول أبي عمر: لا يوجد هكذا إلَّا في